كرة القدم أكثر من رياضة

كرة القدم أكثر من رياضة

24 يونيو 2018
+ الخط -
طالما حظيت كرة القدم بشعبية عالية، على عكس رياضات أخرى، التي كانت، وربما لا زالت، نخبوية وطبقية، تقتصر على الطبقات العليا والمتوسطة في أقصى درجات انحدارها في تراتبية السلم الاجتماعي، كما هو الحال بالنسبة للغولف، الباليه والتنس (كرة المضرب) بدرجة أقل على سبيل المثال، إلى حد ما.
لا يقتصر ذلك على السياق الذي شهدت فيه اللعبة ميلادها، إنكلترا (كرة قدم الاتحاد، سنة 1863) وباقي الكيانات الأروبية، والأميركية لاحقا، بقدر ما طالت مجمل كيانات المعمورة: العوالم الثلاث، بل طالت أشدّ البلدان فقرا، هشاشة وتهميشا، الهامش والهوامش بصيغة التعدّد. هذا، إن لم نقل أنها أضحت أكثر شعبية وأوسع انتشارا في هذه الهوامش، منها في مسقط رأسها ونشأتها. ويبقى السؤال: لماذا حظيت السوكر بكل هذا الزخم، دون غيرها من الرياضات؟ كيف حظيت بهذه الشعبية؟ ما دلالة هذا الزخم وهذه الشعبية؟ وهل أريد لها أن تكون كذلك؟ هل هي فعلا مجرد لعبة ورياضة أم أنها في حقيقة الأمر أكثر من ذلك؟
صحيح أن الشعبية، مهما توسَّعت، ومهما بلغت، تبقى سياقية ونسبية، مشروطة مجتمعيا. تختلف من مجتمع إلى آخر، ومن ثقافة إلى أخرى، من اقتصاد إلى آخر، ومن دولة إلى أخرى، كما هو الأمر بالنسبة لرياضات أخرى، مثل الروكبي (كرة القدم الأميركية) أو الملاكة لدى الأميركي، والكونغفو لدى الصيني، والكريكت لدى الإنكليزي، والأيكيدو لدى الياباني...، إلخ. فالرياضة التي تكون لها قابلية وشعبية واسعة في مجتمعٍ ما قد لا تكون كذلك في غيره، فهل ينطبق ذلك أيضا على "عالم المستديرة" ؟
يمكن أن تختلف شعبية هذا "العالم" من سياق إلى آخر، ومن وسط إلى آخر، لكن شعبيتها تلك تخترق كل السياقات وكل الأوساط، بلا هوادة. قد يستوعب المديني انعدام ملاعب الغولف أو التنس أو الباليه...، في مدينته، في المدن الكبرى وغيرها، لكن انعدام ملاعب كرة القدم، وفرق تمثيلية للمدن وغيرها، فذلك ما لن يستوعبه بتاتا. هذا بالنسبة للمدن والكيانات المحلية، فما بالنا بالجغرافيا الكروية العامة للبلدان، أتحدث هنا عن المنتخبات والفرق الوطنية.
لهذا، فالملاعب أصبحت جزءأ من المجالات المصممة للمدن، وما يتطلبه ذلك من تخطيط عمراني، ورصد للأموال (سياسة كروية)، سواء على المستوى المحلي، سياسة المدن، أو على المستوى العام، تخصيص هيئة وزارية برمّتها.
إذا، لكرة القدم شعبيتها الواسعة أكثر من غيرها. لا يعود ذلك إلى أنها "ساحرة الجماهير" كما قيل، أو إلى شروط سيكولوجية صرفة مرتبطة بالمتعة والإمتاع، أو إلى كرة القدم، من حيث هي لعبة ورياضة في ذاتها، وإنما يرجع إلى أنها اقتصاد وسياسة أكثر منها لعبة ورياضة.
نعم، كرة القدم اقتصاد وسياسة. ولأنها كذلك، فلها سوقها الخاص (سوق كروية)، وسياستها الخاصة (سياسة كروية). ليس لأنها تدبير يخضع للنظام؛ نظام مزدوج، اقتصادي وسياسي. لها اتحادها الدولي (فيفا)، والاتحادات الوطنية، باختلاف مشاربها، ونظام اقتصادي، منطق السوق الليبرالي، كمنتوج اقتصادي فقط، بل لأنها أصبحت شأنا عاما من ناحية، وآلية تنموية للاقتصاد، إن لم نقل للبلدان أيضا، من ناحية أخرى.
ويكفي أن ينظر إلى الكيفية التي تقام بها المباريات، وتفاعل الجماهير معها، أكانت مباريات بين "فرق محلية" أو أخرى "دولية"، قُطرية كانت أم قارية و"عالمية"، إذ كيف تتحول إلى حرب هويّاتية، بين هويات كروية، بل ثقافية وقومية، إن لم نقل تاريخية. لكي نستشف أننا، فعلا، لسنا أمام "مجرد لعبة رياضية". وتكفي أيضا، أن نشير إلى الأهمية البالغة التي يكتنفها تنظيم المونديال بالنسبة للدول، والصراع القائم بينها للظفر بشرف هذا التنظيم، تنظيم كأس العالم. لكي نبين ونتبين في نهاية التحليل، بأن كرة القدم، فعلا اقتصاد وسياسة بل اقتصاد سياسي.
للتلفزيون وإحداث قنوات خاصة بكرة القدم، بغض النظر عن حضورها في مجمل القنوات التلفزيونية، نقلا وتحليلا، أو لبث أخبار كروية،..إلخ، ولمنظومة العولمة (عولمة الكرة) هي الأخرى، فضلا عن الشبكة (الأنترنت) والوسائط الإعلامية الجديدة، لعبت دورا مهما، إن لم يكن محرّكا في إضفاء الطابع الشعبي على ساحرة الجماهير، في مجتمع الجماهير، وفي مجتمع الفرجة. كل تلك الشروط بمفعولاتها المتعددة والمنشبكة، جعلت الـ"الساحرة" تسحر الكائن، وتفعل فعلها في الإنسان المعاصر.
تلك الفاعلية التي هدمت الجدران والحدود اكتسحت المجالات العمومية والخاصة: الخطاب السياسي، الإعلام، الأزقة والشوارع، الساحات، المقاهي، النوادي، أماكن العمل، المنازل، وغرف النوم...وغيرها، تماما، كما اخترقت الجسد: الوشم، تقليعات الشعر، اللباس، المشي،... إلخ. باختصار، بتلك الفاعلية، خلقت، أحدثت وصنعت مجالها في الحياة اليومية.
وعلى هذا النحو، فإن كرة القدم أضحت خاصية الكائن، الكائن الكرويّ، تحدد وجوده الاجتماعي. فإما أن يكون "ريالِيا"، أو "برصاويا"، أو "وداديا" أو "رجاويا" ...
بما أن كرة القدم لم تغدو مجرد لعبة تنافسية أو رياضة حتى، بقدر ما غدت رياضة اقتصادية ولعبة سياسية لها اقتصادها السياسي، إن لم تكن جيوسياسة كما أصبح ظاهرا في الواجهة، فإن تنظيم كأس العالم يلزم علينا طرح سؤال المصلحة: ما مصلحة "فيفا" من تنظيم كأس العالم، وفي المغرب؟ لنطرح السؤال بصيغة أخرى قد تبدو معاكسة: ما مصلحة المغرب من تنظيم كأس العالم؟ أو بكيفية أدق: لمصلحة من؟ هل سينعكس ذلك على لقمة العيش للمغربيّ، على مغربيّ الهامش؟ أم أن الأمر لا يغدو أن يكون إلا آلية أخرى من آليات تهميش أكثر لهامشيته، وتوسيع أكبر لهالة مركزية المركز؟ لنترك هذه الأسئلة مفتوحة، مرجأة إلى حين.
D69BE6B6-08CF-4BC3-9D76-D55F1E1E6798
D69BE6B6-08CF-4BC3-9D76-D55F1E1E6798
عثمان لكعشمي (المغرب)
عثمان لكعشمي (المغرب)