رأس النعامة في التراب المصري

رأس النعامة في التراب المصري

24 يونيو 2018
+ الخط -
هكذا، إذًن، سيعود رئيس وزراء إثيوبيا، آبي أحمد، إلى بلاده مرتجفًا، تحت وطأة القسم الذي أداه أمام الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، ومتعهدًا بأن بلاده لن تقوم بأي عمليات تحويلٍ لمياه النيل والإضرار بالمصالح المصرية؛ لأن القسم "عظيم"، وعليه أن يبرّ به، تمامًا كما برّت إسرائيل بكل وعودها التي تعهدت بها بعدم سرقة المياه العربية، بدءًا من نهر العاصي اللبناني، وصولا إلى نهر الأردن وروافده.
والحال أنه، في زمن التهريج العربي، يستطيع رئيس أكبر دولة عربية أن يتثنى ويتغنج كالنعامة على منصة الخطابة، إلى جانب رئيس وزراء دولةٍ بالكاد تظهر على الخريطة الأفريقية، ولا تملك من مقومات القوة ربع ما تمتلكه مصر، فيظهر منسحقًا أمام زميله على المنصة، وهو يرجوه أن يردّد خلفه ذلك القسم السخيف. وفي المقابل، يظهر المهرّج، نفسه، ونياشينه تقطر دمًا، ليتوعد ويهدد كل من يفكر بمعاودة إحياء شعلة الربيع المصرية التي وأدها ببسطاره العسكري.
كنت وصفت السيسي، سابقًا، بأنه نمطٌ من رجال المهمات القذرة، وهم رهطٌ من الكائنات الميتة عاطفيًّا، توكل إليها مهماتٌ لا يقبل بتنفيذها أصحاب الضمائر والقلوب الحية، وعادة ما يعملون فرادى لصالح من يدفع لهم لقاء جرائم قتلٍ وسلبٍ وتهديدٍ وغيرها، وشاء حظنا العربي العاثر أن نشهد رئيسًا للمهمات القذرة كالسيسي الذي جاء صنيعة أميركا وإسرائيل وأنظمة التخلف العربي، منذ قرّر هذا الثالوث المرعب القضاء على ثورات الربيع، وتجفيف روح المقاومة العربية.
ولئن كانت بداية تلك المهمات القذرة قد انطلقت في مصر ذاتها، فإنها راحت تتسع وتتضخم، مع تصنيف كتائب القسام منظمة "إرهابية" في عرف المحاكم "السيساوية"، فضلًا عن تجريم كل من "يتخابر مع قطر"، وتبرئة المتخابرين مع إسرائيل.
والمعضلة أن من أوصلوا السيسي إلى السلطة، لا يزالون يحملونه على دفع الفواتير منذ انقلابه الوحشيّ، غير أن رحلة الفواتير لم تنته، أو بالأحرى هي لن تنتهي، ما دام يجثم على عرش الاستبداد؛ لأن من زيّنوا له حب السلطة، وأمدّوه بـ"الرز"، أرادوا له أن يكون محرقةً تطالبه بالمزيد، كلما اعتقد أنها امتلأت وفاضت جثثاً وخياناتٍ وثوراتٍ مجهضة.
في المقابل، علينا الاعتراف بأن السيسي كان من أمهر الممثلين البدلاء في قهر روح المقاومة العربية؛ لأنه ببساطة يؤدي أدواراً مكثفة وسريعة، لا تحتمل التقاط الأنفاس بين دهشة وأخرى.
في الشق الأول من أدواره، والذي يمتاز بـ"الأكشن"، تمكّن السيسي من إذهال صانعيه بقدرته على حرق المراحل كلها في إجهاض ثورة الربيع المصرية، ففي ظرف أيام فقط كان الانقلاب قد اكتمل بأقصر سيناريو وأفدح التكاليف التي ذهب ضحيتها آلاف المعتصمين والمتظاهرين. وبالسرعة ذاتها أصبح أنصار النظام المطاح جميعاً "أعداء للثورة" و"إرهابيين". وفي شهرين أو ثلاثة، غدا السيسي رئيسًا، بعد أن كان يتمنّع تمنّع "المغناج"، ثم راح يوطد سلطة الفرعون، بحشوه منظومة القضاء في جيبه، وتحويل القنوات الفضائية المصرية، عن بكرة أبيها، إلى مجموعة طبالين وزمارين، يهتفون بإنجازاته على "البسكليته" إلى امتطائه مدفع الدبابة في شوارع القاهرة.
ولئن كانت تلك الدماء التي أهرقها السيسي فواتير تداخل فيها الشخصيّ والمموّل العربي والصهيوني، فإن دماء رفاقه العسكر الذين يقتلون في سيناء فواتير أخرى يسدّدها لنتنياهو وجنرالات إسرائيل، حفاظاً على أمنهم وهدوء جبهتهم. أما عن الفواتير المقبلة، فالشيطان والسيسي، وحدهما، أدرى بهما.
كتبت، منذ البداية، أن السيسي محض رجل للمهمات القذرة، أو "لاعب" بديل لأطراف خارجية، تدفع به إلى مقدمة المشهد الدامي، ولن يضيرها عدد الفواتير التي تدفع، ولا قسوتها، ما دام البديل راضياً بهذا الدور الذي هبط عليه من سماءٍ يختلط فيها النفط بنجمة داود، وبالدولار.
على هذا النحو، يقف الرئيس السيسي كالنعامة على منصة الانسحاق الخارجي، لأن الدور يتطلب منه هذا التذلل أمام الفزّاعة الإثيوبية، لكن ما فات هذه النعامة أنها، وفي القريب العاجل، بعد أن تستنفد كل فواتيرها وأدوارها، لن تجد ترابًا مصريًا يقبل أن تدفن رأسها فيه.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.