هذه الجولة الأميركية وغياب الزعامة فلسطينياً

هذه الجولة الأميركية وغياب الزعامة فلسطينياً

22 يونيو 2018
+ الخط -
لا تلقي إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بالاً لاحتجاجات السلطة الفلسطينية على استقبال عواصم عربية جاريد كوشنير، مستشار البيت الأبيض وزوج ابنة ترامب، وجيسون غرينبلات، المبعوث الأميركي للسلام في الشرق الأوسط، والَّلذَيْنِ يعكفان على وضع الرتوش الأخيرة على خطة "سلام" بين الفلسطينيين والعرب مع إسرائيل، وتعارضها القيادة الفلسطينية الرسمية. الأَمَرُّ أن العواصم العربية نفسها التي زارها الاثنان لا تلقي بالا كذلك لتحذيرات السلطة الوطنية الفلسطينية، فهي تحولت إلى كَمٍّ مهمل، لا يفيدها تَمَنُّعُها في شيء بعدما ألقت كل أوراق قوتها في أعماق بحر الحسابات الخاطئة والسفاهة السياسية. ما لا تريد القيادة الفلسطينية الرسمية أن تعترف به هو أن حضيض القاع الذي وصل إليه الحال الفلسطيني إنما هو نتاج، إلى حد كبير، لسياساتها وممارساتها. لقد أصبح "المشروع الوطني الفلسطيني" تعبيرا من دون مضمون ولا جوهر، وتاهتِ البوصلة، وَضَلَّ الكُلُّ الفلسطيني الطريق، بعد أن تشعبت السبل أمامهم واختلف الأدلاء الكثيرون. أما ثالثة الأثافي فتكمن في تبعثر حتى هذه القيادة الرسمية، فكثيرون من أقطابها اليوم يرسمون الخطط، ويبنون التحالفات، ويعدون العدة لليوم التالي لغياب رئيس حركة فتح، ورئيس السلطة الفلسطينية، ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ورئيس دولة فلسطين، محمود عباس. وهم في سبيل ذلك يتحالفون ويتقاطعون، سواء مع قوى فلسطينية داخلية، ومع عواصم عربية، أو حتى مع تل أبيب وواشنطن.
تقول واشنطن إن جولة كوشنير- غرينبلات، والوفد المرافق لهما في المنطقة، والتي حملتهم، حتى لحظة كتابة هذه السطور، إلى الأردن والسعودية، ومن المفترض أن تشمل قطر ومصر وإسرائيل.. تقول واشنطن إن هدفها بحث إحلال السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، فضلا عن إيجاد حلول للوضع الإنساني الكارثي في قطاع غزة المحاصر. في المقابل، ترى القيادة 
الفلسطينية الرسمية أن جولة كوشنير- غرينبلات لبحث "صفقة القرن" إنما هي "مضيعة للوقت"، و"سيكون مصيرها الفشل، إذا استمرت في تجاوز الشرعية الفلسطينية المتمسكة بالثوابت المتفـق عليها عربيا ودوليا". ولم يتردد عباس في إصدار بيانٍ، قبل وصول كوشنير- غرينبلات، إلى العاصمة الأردنية، عَمّان، يوم الثلاثاء الماضي، حذر فيه "دول المنطقة من التعاون مع تحرك هدفه إدامة الانفصال بين غزة والضفة الغربية، ويقود إلى تنازلاتٍ في القدس، وفي الأماكن المقدسة". وعلى الرغم من هذا التحذير، التقى العاهل الأردني، عبد الله بن الحسين، الوفد الأميركي، وناقش معه ما جاء من أجله. ثم طار الوفد إلى الرياض، يوم الأربعاء الماضي، والتقى فيها ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، وناقش الأمور نفسها. ومع نشر هذا المقال، يفترض أن يكون الوفد قد أتمَّ جولته في المنطقة، أو أنه على وشك استكمالها. بمعنى آخر، فإن كل صيحات السلطة الفلسطينية وتحذيراتها لم، ولن تجد لها صدى عند أحد من الأشقاء أو الخصوم.
تحذيرات القيادة الفلسطينية الرسمية حقيقية، فـ"صفقة القرن" التي تعدها إدارة ترامب ستكون "خازوقا" للكل الفلسطيني، فهي ستلغي حلم إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة وقابلة للحياة على بعض فلسطين. كما أنها سَتُشَرِّعُ تهويد القدس المحتلة، وفي القلب منها القدس القديمة، والمقدسات فيها، في شرقيِّ القدس، وضمها لإسرائيل، خصوصا بعد نقل السفارة الأميركية إليها. كما أنها ستلغي حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وقد تكرّس فصل قطاع غزة كليا عن الضفة الغربية. هذا غيض من فيض، لكن القيادة الفلسطينية الرسمية تتغافل، عامدة، عن أن "أشقاء" كثيرين ما عاد يعنيهم تحقيق أقل القليل من الحقوق الفلسطينية. هم يريدون تصفية سريعة ودائمة (لا حلا سريعا ودائما) للقضية، ليخلو لهم وجه تل أبيب وواشنطن، وليتفرغوا لـ"ثالوث الشَرِّ" في المنطقة: "البعبع" الإيراني، "الإسلام السياسي"، ومطالب الشعوب العربية بالديمقراطية والحرية والكرامة. "اكتشف" هؤلاء "الأشقاء" أن ضمان الكراسي والعروش لا يكون إلا برضا وقبول من تل أبيب وواشنطن. وبهذا تكون فلسطين عقبةً أمام تحصيل هذا الرضا، ومن ثمَّ لا بد من تحييدها، شاء أهلها أم أبوا.
كُلُّ ما سبق تدركه القيادة الرسمية الفلسطينية، لكنها تتعامل معه بقمة التواطؤ. تريد واشنطن أموالا خليجية تستثمر في قطاع غزة، تقول تقارير إنها تتجاوز المليار ونصف المليار دولار، لتهدئة الأوضاع الأمنية هناك، وتنفيذ مشاريع اقتصادية طويلة الأجل في القطاع المنكوب، 
تمهيدا لعرض "صفقة القرن". يقبع قطاع غزة وسكانه الذين يناهزون المليونين تحت حصار وحشيٍّ بغيض منذ أحدى عشرة سنة، وهو قد تعرض لثلاثة اعتداءات إسرائيلية عسكرية كبرى، ما بين 2008-2014، فضلا عن عشرات الاعتداءات الأصغر. الكارثة أن حصار قطاع غزة ليس إسرائيليا فحسب، ولا حتى مصريا فقط، بل تشارك فيه السلطة الفلسطينية، وهي الأكثر لؤماً. بل المفارقة الهزلية، بل المبكية (لم نعد قادرين على التمييز هنا)، أن يتهم وزير الحرب الإسرائيلي المتطرف، أفيغدور ليبرمان، عباس، في شهر مارس/ آذار الماضي، بأنه يحاول أن يدفع الأوضاع في قطاع غزة إلى صدام عسكري بين حركة حماس وإسرائيل، عبر إصراره على وقف التمويل عن القطاع، بما في ذلك مدفوعات الكهرباء والماء والصحة. وقد وصل الأمر بالأجهزة الأمنية الفلسطينية في الضفة الغربية أنها اعتدت، أخيرا، على مظاهرة فلسطينية سلمية في رام الله، كانت تطالب بوقف العقوبات التي فرضها عباس على قطاع غزة وأهله.
باختصار، ما يخطط لفلسطين أميركيا وإسرائيليا، وبغطاء من بعض العرب، حقيقي وخطير وداهم، لكن هذا لا ينفي أن القيادة الفلسطينية الرسمية ليست أقل تواطؤا في هذه المؤامرة على فلسطين وقضيتها وشعبها. إن محمود عباس، وإن كان يحتكر مناصب وألقابا فلسطينية يصعب حصرها، غير أنه رجل يفتقد الزعامة والكاريزما، دع عنك الحكمة والكياسة. انتقد ما شئت في النهج السياسي للرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، وهو مسؤول، إلى حد كبير، عن الحال الذي آلت إليه القضية الفلسطينية، إلا أنه كان زعيما، ودوما ما رأى نفسه رمزا لفلسطين ونضال شعبها. لا يملك عباس مؤهلات الزعامة، بل إنه يحتقرها، وكل من يتنافسون على خلافته أسوأ منه في هذا السياق. في تقدير كثيرين، لو كان عرفات حياًّ لزار قطاع غزة وأعاد اللحمة إلى جناحين من أجنحة الوطن، ولأفشل مخطط من يريدون ضربهما بعضهما بعضا. لكن عباس ليس ذلك الرجل. هو يحذّر من خطورة فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، وتداعيات ذلك الكارثية على "المشروع الوطني الفلسطيني" في الوقت الذي يقوم فيه، هو نفسه، بوأد هذا "المشروع"، وَيَحُدُّ فيه سكاكين الخصوم، أميركيين، أم إسرائيليين، أم عربا، لذبح ما تبقى من فلسطين وحقوقها.