اليمني المغترب في داره

اليمني المغترب في داره

22 يونيو 2018
+ الخط -
لا أظن الغربة إلا لازمة يمنية بامتياز! فاليمنيون مغتربون في كل أصقاع الدنيا؛ بحيث لو فتشتت كل خطوط الطول والعرض الجغرافية ستجد على كل خط يمنيين.
جرّب المواطن اليمني الغربة منذ زمن سحيق، منذ زمن الهجرات الأولى في عهد التبع اليمني الأول (يمن يعرب) في مطلع الألف الخامس قبل الميلاد. ومن يومها لم تتوقف الغربة! بل صارت الغربة غربة بكل الأشكال؛ غربة حضارية وإنسانية ووو… إلخ.
اليوم في ظل هذه الظروف الحالكة، أصبح بلدنا أشبه بمنتجع سياحي جميل مهجور، وصارت الغربة أول هاجس يدور برأس المواطن اليمني في الداخل، المهم أن يجد فرصة لذلك.
وليس الأمر كُرها للوطن أو الأرض، إنما كُره للظروف والأحوال المعيشية المتردية التي أصبحت لا تُطاق، في ظل سياسيين مغامرين لا يحسون ولا يشعرون بآلام المواطن البسيط، ألم يقل الشاعر المصري، أحمد محرم: يا صَاحِبي: فِيمَ المُقَامُ عَلَى الأذَى؟/ سِرْ فالْبِلاَدُ فَسِيحَةُ الآفاق؟
فهل قدَرُ اليمنيين الغربة؟ أم إنهم يعشقون الغربة حتى صارت قدرهم المحتوم؟ الغريب أن تجد اليمنيين الذين في الداخل يهنئون المزمع للغربة في يوم وداعه، بدل أن يشاطروه الألم لفراق الوطن، وكأنه تم "الإفراج" عنه من سجن عتيد.
شخصيا لا أحب الغربة، فقد جربتها عندما كنت طالبا في الدراسة الجامعية في العراق في منتصف تسعينيات القرن الماضي؛ ست سنوات كاملة، على الرغم من أني كنت أعود إلى اليمن في عطلات آخر العام الدراسي.
لكن مع ازدياد حالات الاغتراب، أحس أن لعنة الأجداد انتقلت إلينا عبر العصور، منذ تهدم سد مأرب في القرن الثاني الميلادي وهجرة عمرو بن ميزيقيا المشهورة، كما عبّر عنها الشاعر اليمني الكبير، عبد العزيز المقالح، في قصيدته المعنونة برسالة إلى عمرو بن مزيقيا، إذ يقول: لقد كنتَ يا "عمرو" لعنةَ أيامِنا الخاليةْ/ وما زلت لعنةَ حاضرِنا/ ثم أيامنا الآتية/ إذا ما ارتحلنا ذكرناك أول الراحلين/ وحين نَفرُّ من الليل أنت الدليل المهين".
كما صارت تُضرب بنا الأمثال في التفرّق؛ فتقول العرب "تفرّقت أيدي سبأ"!، إذ خرج اليمنيون من أرضهم في ذلك الزمن القديم وكان الانتشار، وهاهم الأحفاد يعيدون الكرّة.
اليمن كمنطقة جغرافية موضوعة في الزاوية الغربية الجنوبية من شبه الجزيرة العربية، محاطة بالجبال من أكثر من منطقة، مما يجعلها بعيدة عن مناطق مؤثرة كثيرة.
يبدو أنّ هذا الانزواء الجغرافي ولّد في الشخصية اليمنية هذا الشعور بالغربة، إضافة إلى الدور الذي لعبته الأنظمة السياسية التي تعاقبت على حكم اليمن، منذ أن خرجت من دائرة الحضارة بُعَيْد الانقلاب الأموي على الخلافة الراشدة؛ حيث عمل كل من ولاة الدولتين الأموية والعباسية على "تحييد" اليمن، بل غمطوا مكانتها الحضارية، واستمر هذا التهميش بعد ذلك.
وفي العصر الوسيط، انقسم اليمن إلى عدة دويلات متصارعة، لم تكن استثناء من هذه الدويلات إلا الدولتين: الصليحية (1047- 1138م) والرسولية (1229- 1454م) اللتين قدمتا مشروعا حضاريا لهذا البلد، ظلت آثاره باقية. وما عدا ذلك، ظل اليمنيون مغتربين منذ زمان طويل، كأنهم مغتربون، ولو لم يغادروا أرضهم، يصدق عليهم وصف شاعر اليمن الكبير، عبدالله البردوني، إذ يقول: بلادي في ديار الغير أو في دارها لهفي/ وحتى في أراضيها تقاسي غربة المنفى... فهل بعد هذا اغتراب؟


عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري