اللغة الاستعمارية لم تنقرض

اللغة الاستعمارية لم تنقرض

03 يونيو 2018

الشاب المالي يتحدث إلى ماكرون في الإليزيه (28/5/2018/فرانس برس)

+ الخط -
تسلّق شابٌ من مالي واجهة بناء باريسي، ليُنقذ طفلاً كاد أن يسقط من شرفة منزله. شاهد ملايين الناس شريط الفيديو الذي سجّل هذا العمل البطولي، واستقبل الرئيس إيمانويل ماكرون المهاجر غير الشرعي في قصر الإليزيه، وشكره على شجاعته، ومنحه وعداً بتسوية وضعه وإتاحة الفرصة له للتقدم والحصول على الجنسية الفرنسية، مضافاً إلى ذلك كله، وعده بالتوظيف في فوج إطفاء العاصمة.
تلقفت وسائل الإعلام هذا العمل البطولي، وصار الشاب مامادو غسّامة عظيم الشهرة، وانهمرت عليه المقابلات الصحافية، مشيدة بجرأته. في المقابل، بدا وكأن اليمين المتطرّف غير راضٍ عن المديح الذي أُطنِبَ لشابٍ أسود دخل البلاد بطريقة غير شرعية، وهذا كان متوقعاً. وما لا يمكن توقعه أن يميل العنصريون أولئك إلى تطوير نظرية المؤامرة التي يجتمعون على اعتناقها مع متطرّفي اليسار وبافلوفييه، فصار الشاب ممثلاً، وصار الطفل دميةً من البلاستيك، وصارت القصة كلها من وحي الخيال. وتطوّر الأمر إلى أن يدعوه بعضهم، إن كان بهذا الإقدام وبهذه الصحة، أن يعود إلى بلاده، ليُدافع عنها أمام الإرهابيين من قاعديين ودواعش، والذين يعيثون قتلاً فيها.
أعيت العنصرية  من يداويها في العالم كله، وتزاوج الخطاب العنصري مع الميل نحو التطرّف اليميني لازمة لا حياد عنها، بل يمكن أن تكون هناك من إضافة لها، فاليمين التقليدي الفرنسي 
بقيادة لوران فوكييه لا يبتعد كثيراً مع رئيسه الحالي عن خطاب المتطرّفين، خصوصاً فيما يتعلّق بمسائل الهجرة والأجانب. كما أن بعض اليسار يُمارس التقيّة في إخفاء حقيقة موقفه، إلا أنه في الواقع وفي الممارسة لا يختلف كثيراً عن الآخرين، خصوصاً في مرحلة القلق الاقتصادي والأمني التي تُهيمن على المجتمع الفرنسي.
وإن عاب بعضهم التركيز في الحديث عن هذا الشاب، وعمّا أقدم عليه من عمل، على لونه الأسود، واعتبروا أن في هذا التوصيف عنصرية مقابلة، فإن المرء ليحار في موقفه إزاء هذه الطهرانية التي تصحّ، إن هي جاءت في إطار التطرّق للحدث، بعيداً عن الاحتقان القائم في الغرب عموماً، وفي فرنسا خصوصاً، فيما يتعلق بالمهاجرين الأفارقة والمسلمين. وربما من الأجدر تحديد اللون، ليس تمييزاً ولكن لإضفاء "إيجابيةٍ" نادرة على مجموعة بشرية لطالما تعرضت للقهر في بلادها من حكومات مستبدّة من جهة، وللتمييز في بلاد العبور والهجرة مرتبط بلونها من جهة أخرى.
فعندما تستثمر الشركات متعدّدة الجنسيات في بلاد هؤلاء "السود"، فهي تعمد إلى تشغيلهم ساعات قد تصل إلى 15 ساعة يومياً، وفي ظروف لا إنسانية، متوافقة في ذلك مع حكّامهم الذين تتقاطع مصالحهم ومنظومة الفساد التي يحرصون عليها مع مصالح هذه الشركات. كما تعمد هذه الشركات إلى توظيف الأطفال، خصوصاً في ملاجئ المعادن النادرة المستخدمة في صناعة شرائح الهواتف الخليوية، لصعوبة إمكانية دخول البالغين في الثقوب الضيقة للوصول إلى هذه الكنوز. جرائم موصوفة تجري أمام أعين العالم غير الآبه لما يعيشه هؤلاء الأفارقة الذين تذخر أراضيهم بالثروات، ولا ينعمون إلا باضطهاد الحاكم واستعباد شركائه. وعندما يسعى بعضهم إلى الهروب من هذا الجحيم إلى بلاد يعتقدون برحابتها الاقتصادية وإنسانيتها (المُتخيّلة؟)، والتي قرأوا عنها في كتب القيم، خصوصاً قيم الثورة الفرنسية، فهم يصطدمون بكمِّ من العنصرية الظاهرة، والتي، وإن لم تعكس حقيقة المجتمعات المستضيفة، إلا أنها ذات صوت مرتفع وقدرات إعلامية متينة.
أمام هذا التوتر الحقيقي غالباً، أو المصطنع أحياناً، يقف مجتمعٌ مدنيٌ عريقٌ بمنظومته وبممارساته للحدّ من الوقع السلبي للممارسات العنصرية، وصولاً إلى تجريمها. وبعيداً عن أية مبالغة، فالتعبير الصريح عن المواقف العنصرية، أو الممارسات التمييزية، يجد أمامه قانوناً متيناً إن لم يلجأ له أصحاب الألم المباشرون، وهو ما يحصل غالباً نتيجة الخوف أو الجهل بالقوانين أو ثقافة الصفح، فمن النادر ألا تسعى الجمعيات المعنية إلى اللجوء إليه واستخدامه، والتزود به، لينظم الحياة المشتركة للمكونات كافة.
من جهة أخرى، ينعكس التمييز في بعض الممارسات العنفية أو غير القانونية لبعض ضحاياه. وهذا ما يؤجج الحجج الضعيفة لمناوئي سياسات الانفتاح على الهجرة والمهاجرين. وكأنها
 دوامة أو حلقة مفرغة، تنفرد المنظمات المدنية المحلية بالاعتماد على التشريعات الجارية في مجابهتها. ومن الانعكاسات السلبية للغاية لجوء بعض الضحايا إلى الأسهل من التعويض النفسي، إن هم لم يختاروا الانحراف، فهم يجدون في الجماعات المتطرّفة كلاماً أو فعلاً ملجأً رحباً يُتيح لهم رمي حمولة المعاناة الثقيلة، وتبنّي كراهية معاكسة وعنصرية مضادة، يروّجها خطابٌ ظلاميٌ ما زال منفلتاً، على الرغم من كل محاولات لجمه أو تأطيره. وربما يتقاطع هذا الخيار مع خيار الانحراف، ليجري التعويض التبادلي بين الإثم والمعصية من جهة، وأداء الفروض من جهة أخرى، كما يشيع بعضهم من المتعممين الجهلاء بدينهم ودنياهم.
في أثناء استقبال قائد فوج الإطفاء الباريسي الشاب مامادو، شكره أمام الصحافة على إنقاذه طفلا فرنسيا، مُذكّراً بأن فرنسا فقدت 21 جنديا في مالي من أجل حرية الماليين. خطابٌ يُعيد إنتاج لغةٍ استعماريةٍ، كاد المرء يحسبها انقرضت.