مصر.. سلطوية قديمة لمواجهة الإعلام الجديد

مصر.. سلطوية قديمة لمواجهة الإعلام الجديد

20 يونيو 2018
+ الخط -
تحاول السلطات الاستبدادية محاصرة مؤسسات التعبير، وتعطيل كل وسيلةٍ تساهم في نقل المعلومات أو ترويجها وإبداء الرأي، طالما لا تمتلكها وتحكم السيطرة عليها، لما بدا لوسائل التعبير والنشر من آثار متنوعة، فهي توفر فرصةً لإثراء النقاش في المجال العام، وتدعم حيويته. وفى بعض الأحيان، تشكل حالة الحوار والنقاش على منصات الإعلام الإلكتروني، وأشكاله المتنوعة، أداة لتشكيل الوعي والتأثير في الرأي العام، وتخلق في المقابل مجالا عاما افتراضيا، ليس منفصلا عن الواقع ومجرياته وأحداثه. وهذا في النهاية يحدث تأثيرا في البنية السياسية، عبر تراكم المعارف الذي قد يؤدي إلى تشكيل وعي حقيقي بالواقع، ويشكل التفاعل على الشبكات الاجتماعية عموما ساحةً سياسيةً للمراقبة والتعليق والنقد، خصوصا إذا تعارضت سياسات السلطة مع مصالح المواطنين.
تعد حالة النشاط والفاعلية هذه، وخصوصا في جانبها السياسي، تحديا للسلطة في مصر، بعد أن أصبح هناك ملايين من المصريين يشتبكون مع السياسات الاقتصادية والأحداث الجارية. لا يفوّت الفاعلون في الشبكات الاجتماعية حدثا أو تصريحا من مسؤول من دون نقاش، تختلف القضايا المثارة، من حيث حجمها ونوعيتها، بغض النظر عن كنية هذا المسؤول ومستواه، سواء كان رئيسا لدولة أو مديرا لمستشفى أو أي مؤسسة تقدم خدمة، سيجد أثر هذا المجتمع الجديد الذي يتشكل، ويقاوم، بسلطة التعبير على شبكات التواصل، محاولات حصار التعبير، ميدانا على الأرض أو في الميادين، كما تتناقل الشبكات الأحداث التي يتجاهلها الإعلام بقصد، فيبرزها ويثير حولها موضوعا للنقاش يتجاوز أحيانا أثر الوسائل الإعلامية التقليدية.
شكل التطور التكنولوجي ملايين من المراقبين الجدد، الموجودين على الشبكة الافتراضية، 
بعضهم فاعل، وبعض متلقٍّ وفاعليته أقل، لكن هذا الوضع أفرز نخبا جديدة أزاحت نخبا تقليدية، وأصبحت أصوتهم مسموعة في ظل خرس بعض النخب، أو انطوائها في السلطة. وشكلت هذه الحالة من السيولة والتدفق المعلوماتي، والحرية، وسرعة الانتشار والسهولة، والإتاحة إطارا للفاعلية التشاركية الواسعة، وأصبحت إضافة إلى مفاهيم الديمقراطية ومضمونها في عصرنا الحالي، فالمشاركة في النقد والتعبير الحر والمبادرات الجريئة، والملاحظات الحادة خفيفة الظل أحيانا، أصبحت أداة تفضح أدوات القهر، وهيمنة السلطة في صنع الأخبار وتوجيه الرأي العام.
لم تعد العملية الاتصالية بشكلها التقليدي مرسلا ومستقبلا، تنوع المرسلون والمستقبلون، وتوسعت نقاط الإرسال وإعادة البث والنشر والمشاركة. ولذا حين تفكر السلطة في تشكيل رأي عام مؤيد لسياساتها، فإنها تواجه بتحدٍّ ضخم، فلم تعد الدولة قادرةً على التحكم في العقول بأدواتها القديمة، بامتلاك وسائل الإعلام ورشوة النخب. أصبحت عمليات تأميم وسائل الإعلام عبر شرائها أقل أثرا في إخضاع المواطنين معرفيا لمقولات السلطة والإيمان والتسليم بوجهة نظرها.
بدا أن النظم العربية، وبعض الدول الأفريقية، قلقة من الفاعلين على شبكات التواصل الاجتماعي، والذين يزداد عددهم يوما بعد آخر. لا يمكن اليوم التحكم في وعي المواطنين بشكل مطلق. وعلى الرغم من أن السلطات دخلت ساحة الصراع على شبكة الإنترنت، بكتائب دعائية، ومجموعات جندتها للدفاع عن توجهاتها، لكن ذلك لا يؤثر على التيار العام الغاضب، بل أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي أخيرا ساحة ديمقراطية، يهزم فيها أنصار السلطة، ويصبحون أقلية.
أوجد التفاعل، متعدّد المستويات سياسيا واجتماعيا وثقافيا على شبكة الإنترنت، عالما لا تستطيع أسوار السلطة حبسه، حتى لو حجبت بعض المواقع أو حبست بعض نشطاء مع المدونين، فإن ملايين من المواطنين ما زال بعيدا عن آليات الضبط والحصار. ومع كل لحظة، هناك موضوعات للنقاش والجدل، وإمكانيات لنقد الواقع، وإيضاح عيوبه ومشكلاته. اليوم هناك حرية غير محدودة، تسمح ببث روح الفكاهة والتندر والسخرية من بنى السلطة وأفرادها ومنطقها. والسخرية أولى مراحل هدم أصنام الاستبداد وأوهام أعمدة السلطة، والسخرية أيضا توضح تناقضات الواقع الاجتماعي.
لذا، لم يكن مستغربا استمرار الهجوم على النشاط الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي، ولا استغراب من أن معظم أعضاء مجلس النواب المصري منشغلون بضبط هذه الحالة، أو محاولة منع شبكات التواصل وحظرها أو مراقبتها أو مقترحات فرض ضرائب على مستخدميها، أو إيجاد منصات إعلامية بديلة وداخلية، تتحكم فيها أجهزة الدولة، وكلها مقترحات طبقتها بعض الدول والحكومات.
أصدر النائب العام المصري، في فبراير/ شباط الماضي، قرارا بتتبع ما ينشر في وسائل الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي، بوصف أن هناك انتشارا لأكاذيب تستهدف أمن الوطن وسلامته تصدرها "قوى الشر"، بينما وافق مجلس النواب، أخيرا، وبشكل مبدئي، على قانون تنظيم عمل الصحافة والإعلام، وأحاله إلى مجلس الدولة لمراجعة نصوصه. وقد تناول هذا القانون، وللمرة الأولى، المواقع الإلكترونية والمدونات والحسابات الشخصية على شبكة التواصل الاجتماعي، طالما تجاوزت خمسة آلاف عضو، وهدف القانون إلى ضبط حالة النقاش والتعبير عبر تلك الوسائل والمواقع الإلكترونية، بل طالب المواقع بتقنين وضعها.
وشمل القانون معاقبة كل من يقوم ببث أخبار كاذبة، وهي التهم التي حبس بها كثيرون من قبل، بالإضافة إلى أن القانون يحد من حرية النشر والتعبير بعباراتٍ مطاطيةٍ قابلة للتأويل، مثل الأمن القومي، تعطيل الدستور وغيرها، أعطي القانون سلطة الحجب والحظر للمواقع الإلكترونية، كما وضع القانون كل صاحب موقع شخصي محل استهداف، كما فرض عوائق مادية على تأسيس المواقع الإلكترونية، بحيث يقسر التأسيس على كتل متنفذة ماليا، ويحد من وجود مواقع شخصية، إو إخبارية لمواطنين أو صحافيين غير أغنياء.
ويتضح من مواد القانون التي قننت سيطرة السلطة على وسائل الإعلام الإلكترونية والمواقع الشخصية وصفحات التواصل الاجتماعي أن الفئات المستهدفة بالعقاب والتخويف أوسع من الصحافيين، وتهدف إلى إخافة عموم المواطنين المصريين من التعبير عن آرائهم عبر شبكة الإنترنت. وبهذا القانون، يمكن استهداف ألف من الأشخاص المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، والذين يزيد متابعوهم عن خمسة آلاف شخص، أو من لديهم صفحات مؤثرة، تعد مصدرا لتحليل الأحداث.
يستهدف قانون تنظيم الصحافة والإعلام إشاعة جو من الخوف والريبة، لدى أوسع قطاع من المواطنين الفاعلين على شبكة الإنترنت، خصوصا مواقع التواصل الاجتماعي، والتي يناصبها النظام ومؤيدوه العداء، نظرا إلى أنها ساحة ومجال افتراضي للمعارضة في ظل قمع الحريات ومحاصرة المجال العام.
ويتعلم النظام هنا من خبرات الحراك السابق على الثورة، حيث ساهم النقاش العام في ساحة الإنترنت في إحياء مفهوم السياسة، وتحفيز قطاعات من الشباب للنزول في الشوارع والميادين للاحتجاج. وقد شكل المدونون في مصر من 2004 – 2008 مددا وإضافة إلى النخب 
السياسية التقليدية، فضحوا الفساد والتعذيب، وردّوا على خطاب النظام بخطابٍ بديل، وحاول بعضهم مساندة الحركات الاحتجاجية الاجتماعية، وتقديم الدعم الإعلامي لها. وفي هذا السياق، يمكن تذكر المدونة الجماعية علاء ومنال، ومدونة الوعي المصري، وأصحاب كليهما خلف الأسوار الآن، بتهمة التظاهر وبث أخبار كاذبة. وتسجل دفاتر الحركة الاحتجاجية كيف نظم الشباب عددا من الفاعليات في تلك الفترة، من خلال التواصل والتعبئة عبر شبكة الإنترنت، فساهموا في تحريك المياه الراكدة، ولم تكن تجربة الشباب المصري الوحيدة في هذا السياق، فيمكن أن نذكر تجربة الشباب التونسي، وحركة سيب صالح المناهضة لحظر المواقع الإلكترونية، والمطالبة بحرية التعبير، بالإضافة إلى تجارب الشباب البحريني والمغربي أيضا.
وتاريخيا، ارتبطت التيارات السياسية بأدوات مساعدة، كمراكز الأبحاث ودور النشر والصحف والمنتديات الفكرية، فبعض فصائل الحركة اليسارية ارتبط بتأسيس الصحف في فترات مختلفة، وكذلك ارتبطت الحركة النسوية بإصدار الصحف والمجلات، وارتبطت الحركة الطلابية بإصدارات داخل الجامعة ومجلات الحائط، وأعطت بعض الأيديولوجيا أهمية كبرى لمفهوم الصحيفة والمنشور الثوري. اليوم ومع التطور التكنولوجي وثورة الاتصالات، وما وفرته وسائل التعبير من فرص، أصبحت تلك الوسائل تلعب دورا سياسيا، وتعد إضافة إلى المجال العام.
إجمالا، وفي ظل أن المستقبل يشير إلى توسع دور الإعلام الإلكتروني، ومساهمته في إيجاد ديمقراطية تشاركية، فإن الحكومات، وفى مقدمتها السلطة في مصر، قلقة من تأثير ذلك في الأوضاع السياسية، خصوصا مع اشتداد أزمة كتل اجتماعية كثيرة، وفي مقدمتهم الشباب الذين يعاني أغلبهم من البطالة، ويميلون أكثر إلى الاحتجاج، والرغبة في التعبير عن مشكلاتهم عبر الوسائل الممكنة. وإذا تابعنا التطور في مستخدمي شبكة الإنترنت، وإمكانات توفر الأجهزة المحمولة المتصلة بالإنترنت، تصبح الصورة أكثر وضوحا بشأن حجم التحديات التي تراها السلطة في هذه الكتل.
D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".