موسكو ودمشق.. العقدة الإيرانية

موسكو ودمشق.. العقدة الإيرانية

19 يونيو 2018
+ الخط -
إذا كانت مرحلة الحرب هي مرحلة الوحدة والانسجام بين الحلفاء، فإن مرحلة السياسة هي مرحلة الخلافات والتباينات، هذه قاعدة أساسية في العلاقات الدولية. ومن هنا، يمكن فهم انتقال الخلافات الروسية ـ الإيرانية في سورية من القوة إلى الفعل، وانتقال روسيا وإيران من مرحلة الصمت والسكون إلى مرحلة العلن والتصرف. إذ تعلن موسكو صراحة ضرورة خروج إيران والقوات التابعة لها من سورية، على الرغم من المحاولات الروسية اللاحقة لتهذيب تصريحات الكرملين، وهكذا يرتفع منسوب الرد الإيراني.
قوبلت التصريحات الروسية الإيرانية أول مرة بخطوات عملية: بدأت موسكو مضايقة القوى التابعة لإيران (القصير)، وإيران تعيد ترتيب وجودها في درعا، عبر تغيير اللباس العسكري، ضمن مشهدٍ يحمل ما يكفي من السخرية تجاه روسيا. لكن هذا الشقاق يجب النظر إليه من داخل الوحدة التي تجمع المحور الروسي ـ الإيراني، لفهم مستلزمات العلاقة التي تجمع بينهما، وتمنع الآخرين من الانحدار وراء أوهام تربك التخطيط والفعل السياسيين لمواجهة إيران في سورية.
هناك خلافات بين الجانبين، بدأت أخيرا على المستوى السياسي، مع انعقاد مؤتمر سوتشي، والتباين الحاصل حيال ورقة المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، واللجنة الدستورية، ثم تجلت اقتصاديا مع العقود التي أبرمها النظام السوري مع روسيا، ثم استراتيجيا مع إلغاء موسكو اتفاقيات عسكرية واقتصادية كبيرة بين طهران ودمشق، منها إنشاء قاعدة عسكرية إيرانية في طرطوس، ومصفاة لتكرير النفط.
المشكلة التي تواجهها روسيا مع إيران في سورية تكمن في ثلاث مستويات: أن الحضور الإيراني في مرحلة "ما بعد المعارك الكبرى" ساهم في إدخال إسرائيل ضمن المعادلة السورية بقوة، بعدما كان حضورها مقتصرا على مستوى معين. الحضور الإيراني القوي في سورية أحد أهم الأسباب وراء انعدام التقارب الجدي بين موسكو وواشنطن. الحضور العسكري الإيراني والدعم المالي الذي تقدمه طهران لدمشق، والتماهي بين العاصمتين إزاء الحل السياسي، عوامل أضعفت قدرة روسيا على ممارسة ضغوط كبيرة على النظام.
ولمواجهة هذا الواقع، تحتاج روسيا إلى تعاون من الولايات المتحدة تحديدا، لن يجد سبيله إلى الأرض، من دون حصول تفاهمات واسعة في سورية. وتحتاج روسيا إلى تقديم إغراءات إلى الولايات المتحدة، لرسم مسار الحل في سورية. ولذلك يمكن القول إن تصريح الرئيس
الروسي، فلاديمير بوتين، ومن ثم تفسيرات مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سورية، ألكسندر لافرينتييف، تبدو موجهة إلى واشنطن، أكثر مما هي إلى طهران. والسبب أنه ليس لدى موسكو القدرة على إرغام إيران للخروج من سورية، ولا الحد من قوة إيران داخل الجغرافيا السورية.
ويفرض هذا الواقع على موسكو اتباع سياسة الخطوة خطوة، لتقليص الدور الإيراني في سورية، مع ما يتطلبه ذلك من ترتيب بعض الملفات بين القوى الإقليمية، بحيث تكون مقدمة لخطوات لاحقة.
لا تخرج عن ذلك التفاهمات المعلنة بين روسيا وإسرائيل حيال الجولان، وكذلك التفاهمات المضمرة بين روسيا والولايات المتحدة حيال درعا. ولا يخرج عن ذلك أيضا إلغاء موسكو تسليم دمشق منظومة صواريخ إس 300، وتصريح مستشار بوتين المكلف بالتعاون العسكري والتقني، فلاديمير كوجين: "بيع هذه المنظومة الصاروخية إلى سورية ليس من اهتمامات موسكو، ولدى الجيش السوري كل ما يحتاجه لمواجهة أعدائه". ويوحي هذا التصريح بأن التهديد الإسرائيلي لا يشمل النظام السوري، بقدر ما يشمل إيران.
وقد تنتهي الترتيبات التي تعمل عليها روسيا بانسحاب إيران من الجنوب السوري، وهذا ثمن بسيط قد تدفعه إيران، طالما ليس لديها وجود عسكري قوي في الجنوب، لكن الروس سيكتشفون مجدّدا حدود قوتهم في سورية، وأنهم غير قادرين على فرض أجندات كبيرة، من دون تعاون دولي، لا سيما من الولايات المتحدة التي تفتقد رؤية استراتيجية واضحة المعالم تجاه التعاطي مع إيران.
يعقد هذا الوضع جهود روسيا حيال إيران ويربكها، في ظل عدم استجابة النظام السوري للمطالب الروسية، وهو الذي بحاجة إلى روسيا أكثر من إيران سياسيا، لكنه بحاجة إلى إيران أكثر اقتصاديا. والأهم أن النظام يستفيد من بعض التباينات بين موسكو وطهران، فمثل هذه التباينات تعطيه هامشا من المناورة للاستفادة من الطرفين أكثر مما ينبغي، وهو يفضل وجود قوتين داعمتين له أكثر من قوة واحدة، لأنه عند ذلك سيصبح أسيرا لها.
قبل النظام المقاربة الروسية في الجنوب السوري إلى حد ما، خصوصا في ما يتعلق بوصوله إلى خط الاشتباك في الجولان، والوصول إلى الحدود الأردنية، لكنه يرفض مبدأ الانسحاب الإيراني من أية بقعة جغرافية لاعتبارات إقليمية. وقد يقبل النظام بضبط الحضور الإيراني وسلوكه، لكن مبدأ الانسحاب، وإنْ جزئيا، يجب أن يرتبط باعتبارات استراتيجية، والأهم أن يخضع لحاجة النظام، وليس لحاجة روسيا.
وكلام الأسد واضح، مع ما فيه من رسائل إلى روسيا "المعركة طويلة ومستمرة.. وهناك حاجة إلى هذا الحلف الثلاثي، أي السوري الإيراني الروسي..".