الحرب الأهلية العربية الراهنة

الحرب الأهلية العربية الراهنة

19 يونيو 2018
+ الخط -
يعيش العالم العربي، منذ العام 2011، ما يشبه الحرب الأهلية الكبرى، وهي دائرة بالفعل في أربع دول، سورية والعراق وليبيا واليمن، وتشارك فيها بالوكالة غالبية الدول العربية المتبقية، والمنخرطة في صراعات إضافية، كأزمة الخليج، وصراعات داخلية وإقليمية أخرى، كالصراع مع المعارضة السياسية والمليشيات والجماعات العنيفة والحركات الانفصالية والاحتلال والتدخلات الخارجية.
ولا تحدث الحروب الأهلية إلا في دول متنوعة داخلياً، وغير قادرة على احترام هذا التنوع، وتحقيق العدالة والمساواة بين مواطنيها. وعادة ما تندلع، لأسباب ثلاثة رئيسية، جشع بعض الأطراف، أو شعور آخرين بالمظلومية، أو شعور بعض القوى بوجود فرصةٍ لتحقيق مكاسب على حساب أطراف أخرى، كضعف النخب أو وجود تحولات دولية تسمح بذلك. وعادة ما تدوم الحروب الأهلية طويلاً، حتى يشعر المتحاربون بالاستنزاف، وبأن عليهم الجلوس سوياً على طاولة واحدة، والقبول بالعيش المشترك بلا منتصر أو مهزوم.
وينطبق التعريف السابق كثيراً على حال العالم العربي ودوله، حيث ينبع الداء الرئيسي من طبيعة الدولة العربية ذاتها، والتي يمكن تسميتها الدول الصلبة لا القوية، فالدول القوية هي القائمة على رضا مواطنيها، وعلى التنوع والقبول به، وإدارته وفقاً لقواعد معروفة ومحترمة تحقق قدراً معقولاً من العدالة والمساواة والاستقرار. أما الدول العربية فهي من النوع الصلب الذي يستمد شرعيته من معاملة مواطنيها بيدٍ حديدةٍ، تنتزع رضاهم انتزاعاً.

لذا، تعيش النخب المسيطرة على تلك الدولة في حالة صراع دائم على مواطنيها، وسعي مستمر إلى السيطرة عليهم وقمعهم، ناهيك عن فشلها في تحقيق المساواة والعدالة والتنمية الاقتصادية والسياسية، نظراً لطبيعتها أقليةً نخبويةً مشغولةً بمصالحها الفئوية من ناحية، ونظراً إلى حاجة التنمية الاقتصادية لأوطان وأقاليم مستقرة، من ناحية أخرى.
ولتعويض هذا النقص، تتوجه النخب الحاكمة، باستمرار، نحو الخارج، للحصول على دعمه العسكري والاقتصادي، في علاقة تتسم دائماً بالاختلال وعدم المساواة وغياب العقلانية والجدوى، حيث تكدس النخب الحاكمة الأسلحة والصفقات الباهظة، وتربط نفسها بالخارج عسكريا واقتصاديا، في محاولةٍ مستحيلةٍ وفاشلةٍ، لا محالة، للقفز على الداخل ومتطلباته، فكيف يمكن أن يتحقق أمن الدول وتطورها بدون استقرار ونمو داخلي، قائم على العدل والمساواة والاستقرار الإقليمي.
تعيش الدول الصلبة حالة عداء مستمر مع مواطنيها الذين يتحينون فرصة ضعف النخب للانقضاض عليها، كما حدث في الربيع العربي، والنخب في المقابل تعيش في تأهب مستمر لقمع مواطنيها، كما حدث قبل الربيع العربي وبعده، وفي ظل الهجمة الراهنة لقوى الثورة المضادة والاستبداد. وبناء عليه، تعيش الدول العربية حالة حرب مستمرة مع بعضها، فالحكومات تعامل بعضها بمنطق الإخضاع، وحرب الجميع ضد الجميع والحروب الصفرية، فكيف يمكن أن تقبل نخب لا تحترم قوانين ونظم بلادها أن تخضع لقيود ونظم إقليمية من نظمٍ مثلها، لا تمتلك القوة الكافية لإخضاعها، فالنخب الصلبة الحاكمة لا تعرف التنوع، أو إدارة الاختلاف في علاقتها بالداخل أو مع بعضها.
لذا، تنشغل النخب العربية الحاكمة بعقد أكبر قدر من صفقات الأسلحة الخارجية، وبمحاولة تحويل بلادها إلى مراكز للتجارة والسياحة والاستثمارات والصناعة الدولية، وكلها محاولات من شأنها الفشل، في غياب الحوار الداخلي الجاد، فهدف صفقات الأسلحة والسلع شراء الدعم الخارجي. والتحولات الاقتصادية لا تهدف إلى تحقيق العدالة والمساواة، بقدر ما تهدف إلى تحقيق مزيد من الهيمنة، والحفاظ على النظام غير العادل، وتهميش الحوار، كما أن الخارج لن يستثمر بشكل جاد في دولة وإقليم لا ينعمان باستقرار حقيقي، قائم على التوافق والحوار وسيادة القانون.
ويمثل الظرف الدولي عاملا رئيسيا في معادلة الحرب الأهلية العربية الراهنة، فالخارج يتعامل مع العرب بقدر كبير من الانتهازية والاستخفاف، حيث يتم التعامل معنا من منظور مصلحي انتهازي بالأساس، فالقضية ليست علاج قضايا المنطقة، وتحويل العرب إلى شريك سياسي واقتصادي وثقافي حقيقي، بقدر ما هي الحفاظ على تدفق موارد العرب للأسواق الدولية بأقل تكلفة ممكنة.
لذا غزت أميركا العراق ودمرته من دون مسؤولية أو تبعات تُذكر، ثم أدارت ظهرها للمنطقة بشكل متزايد، تاركة دوله في المعترك الراهن. ولا يهتم الأوربيون كثيراً بالعالم العربي، إلا فيما يتعلق بتدفق موارده المالية والبترولية على الأسواق الأوروبية وعدم تدفق لاجئيه. والصين مشغولة بمصالحها الاقتصادية، وكذلك روسيا المشغولة بمصالحها الاقتصادية ومكانتها الدولية التي دفعتها للتدخل في سورية ضد الشعب السوري ومصالحه، وتأييداً للنظام.
ويمثل تراجع الاهتمام الدولي بالعالم العربي فرصةً للنخب الجشعة، ومساعيها الدائمة إلى السيطرة على شعوبها وتوسيع نفوذها الإقليمي، مستفيدة من الأسلحة والثروات التي راكمتها، كما حدث في الأزمة الخليجية والثورة المضادة والانقلاب على التحول الديمقراطي في مصر.
لذا تبدو الحرب الأهلية العربية مرشحةً للاستمرار سنوات وربما عقوداً، فالحروب الأهلية تنتهي، كما أشارت بداية المقال، عندما يُرهق أطرافها، ويشعرون باستحالة انتصار طرف بشكل ساحق على خصومه ومعارضيه، وبالحاجة للعيش المشترك. وقد تتطلب أيضاً رعاية دولية للحوار، وتبدو القوى الدولية حالياً غير مهتمة باستثمار مزيد من الموارد في العالم العربي، بل قد تستفيد بعض نخبها المتشدّدة والانتهازية من تسابق العرب على شراء الأسلحة والسلع والدعم الخارجي.
وما زال لدى النخب العربية ما يكفي من الموارد والأسلحة المكدسة لإدارة حروب الجشع والهيمنة سنوات، أما مظالم الشعوب فحدث ولا حرج، حيث تعيش غالبية الدول العربية أزمات داخلية، بسبب غياب العدالة والمساواة والقانون، تدفع جماعات معارضة كثيرة إلى تحيّن فرص الثورة والاحتجاج.

ولعل التحدي الأبرز للنخب العربية المسيطرة اقتصادي بالأساس، نابع من تراجع مواردها، وزيادة أعداد مواطنيها، وعجزها عن شراء رضاهم من خلال الإنفاق العام على الأجور والدعم، كما كان الحال في الماضي. لذا ينظر بعضهم إلى الدول العربية الأكبر باعتبارها المختبرات، أو الأبواب الأهم للتغيير، ويشار هنا إلى دول، مثل سورية والعراق ومصر والسعودية، فتلك الدول كثيفة السكان، وفي حاجة لإعادة بناء اقتصادها.
وقد دخلت سورية والعراق مرحلة الحروب الأهلية بالفعل منذ سنوات، وتبقى مختبرا مهما للصيغة التي يمكن أن تساعدها على الخروج من حروبها الأهلية الجارية. أما مصر فتعيش مرحلة إعادة بناء نظامها السياسي، بعد سقوط حسني مبارك، والانقلاب العسكري على التحول الديمقراطي، في غياب الحريات السياسية من ناحية، والدعم الحكومي والوظائف والفرص، من ناحية أخرى. وتمر السعودية بمرحلة تحول سياسي كبرى، بحكم عدد مواطنيها، وخصوصا الشباب منهم، وارتفاع مستواهم التعليمي وانتشار البطالة وتراجع أسعار النفط، وسعي المملكة إلى تنويع مصادر دخلها، والانتقال إلى حكم أحفاد الملك المؤسس، وكلها عوامل من شأنها الضغط على بنية النظام السياسي في المملكة، وفتحه أمام رياح التغيير.
وتبقى الحرب الأهلية العربية مستمرةً في المستقبل المنظور، بلا أمل في إنهائها، أو في بناء نظام إقليمي جاد، تنعم فيه الدول بالاستقرار والحوار والاحترام المتبادل، حتى تقتنع النخب بأن الدول الصلبة ضعيفة، وأنها في حاجة لبناء دول قوية تحترم تنوع مواطنيها، وتقوم على العدالة والمساواة، مفتاحاً لحل مشكلات الداخل والإقليم على حد سواء.