مركز الثقل السياسي

مركز الثقل السياسي

16 يونيو 2018
+ الخط -
إذن بكل سهولة ويُسر، أطاح الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، الرجلين الأمنيين الأقوى في نظامه، وزيري الدفاع صدقي صبحي والداخلية مجدي عبد الغفار، وظهر كلاهما في صورة مشتركة مع الرئيس، وبرفقتهم من تولى بعدهما، في مشهدٍ لا تغيب عنه الابتسامات، في رسالةٍ تشدد على مدى سلاسة الانتقال.
ليس هذا بعيدا عن تغيرات الأشهر الأخيرة التي أقال فيها السيسي رئيس المخابرات العامة، ليمنح مهام رئاسة الجهاز لمدير مكتبه، عباس كامل، لواء المخابرات الحربية، خارقا كل الأعراف، كما أقال رئيس الأركان، الفريق محمود حجازي، والذي تربطه به علاقة نسب عائلية شخصية أيضا، ناهيك عن عشرات الأسماء الأقل شهرةً في مختلف الأجهزة الأمنية.
ومنذ وقت مبكر، كان السيسي حريصا على تأكيد أن الدولة ليست مدينة "بفواتير" لأحد، وهكذا شهدنا إسكاتا لوجوه إعلامية علا شأنها، مثل توفيق عكاشة وعبد الرحيم علي.
يخالف هذا الواقع تماما كل الأحاديث المكرّرة عن تصوراتٍ يقف فيها السيسي مجرّد واجهة لقوى "الدولة العميقة" الأقوى، كما يحطّم آمالا بُنيت على اندلاع خلافاتٍ داخلية ببنية النظام.
خلف هذا المشهد بشكل عام قاعدتان تاريخيتان في بنية النظام المصري، كما أسسته دولة يوليو. الأولى أن مركز الثقل الأكبر هو دائما موقع رئيس الجمهورية، وهكذا شهدنا سجن أنور السادات "مراكز القوى"، على الرغم من أنه كان، حتى توليه الرئاسة، أضعف منهم بكثير، ولم يقاوموا مطلقا، ولاحقا لم يفلح الفريق سعد الدين الشاذلي في تحريك جندي واحد ضد السادات، أو حتى في استغلال لحظة مقتله التي بث خلالها نداءاتٍ من الخارج، على الرغم من أنه رئيس أركان حرب أكتوبر شخصيا.
وتكرّر المشهد في عهد حسني مبارك الذي أطاح، من دون مقاومة، المشير عبد الحليم أبو غزالة الذي يُعد مؤسس جيش ما بعد أكتوبر.
القاعدة الثانية التي تتكامل مع الأولى أن اللحظات الاستثنائية يعود فيها مركز الثقل إلى منبعه الأول، المؤسسة العسكرية. لا ينفّذ الجيش المصري أبدا انقلاباتٍ بالتعريف الكلاسيكي، ولم يشهد مراحل سورية والعراق، حيث يتولى الحكم الضابط الذي يستيقظ مبكرا مع مجموعته، لكنه يتحرّك، بكامل قيادته، للحفاظ على بنية النظام رافعا شعار الاستجابة لـ "نداء الشعب"، سواء كان هذا النداء حقيقيا أو مصنوعا، وأيا كانت مطالبه التي يمكن توجيهها لاحقا.
وهكذا انحاز الجيش لجمال عبد الناصر، بعد مظاهرات "لا تتنحّى"، وتمت إقالة قادته ومحاكمتهم، باعتبارهم مسؤولين عن النكسة، بينما حظي عبد الناصر بدعم المؤسسة.
وهكذا عقد المجلس الأعلى في أثناء ثورة يناير اجتماعه بدون مبارك، وأعلن بيان انحيازه لمطالب الشعب، على الرغم من أن مبارك كان قائدا تاريخيا في حرب أكتوبر، وهو من اختار كل هؤلاء القادة، لكن بعد هذه اللحظة الاستثنائية، تعلو مصلحة المؤسسة على مصلحة الفرد.
وهو المشهد نفسه الذي تمت محاولة استنساخه بعد مظاهرات 30 يونيو/ حزيران 2013، حيث يتحرّك الجيش استجابة لملايين الشعب في الشوارع، وتصبح هذه بدورها "ثورة" أخرى، تستند إليها شرعية تحرّك عسكري مضاد للثورة الأولى.
وهكذا، طالما لم تحدث "لحظة الاستثناء"، فلا تغيير في القاعدة الأولى. وهكذا أجهض السيسي بسرعة ما اعتبرها محاولة "انقلاب انتخابي"، فسجن الفريق سامي عنان، رئيس الأركان الأسبق الذي حاول الترشح ضده.
لكن هذا لا ينفي اختلاف ما يحدث الآن، فبفضل التقلبات الواسعة، المحلية والإقليمية، أصبح من الممكن خرق أعراف عديدة، وأصبح من الممكن أن نصل إلى مشهدٍ غير مسبوق، تُدار فيه كل الأجهزة الأمنية وكل السلطات بلا منازعةٍ من مكتب الرئاسة، إلى حد التداخل بتفاصيل العمل اليومية، وشهدنا إصرارا على إعلان هذا التوحد بإعلان السيسي أن تكرار ما حدث في العام 2011 ثمنه "حياتي أنا وحياة الجيش".
وبقدر ما يوفر هذا مزيدا من الاستقرار والثبات للرئيس الحالي والنظام، بقدر ما يرفع من مخاطر غموض السيناريو، إذا حدثت "حالة الاستثناء" أيا كان شكلها، خصوصا في ظل الأزمات الاقتصادية التي يعاني منها المصريون، والتي ربما يوما ما تعيد مركز الثقل إلى الشعب، وإن كان هذا الاحتمال بعيدا الآن، لعوامل داخلية وخارجية، فقد علمتنا حركة التاريخ أنها دوّارة، وشهدنا بسنوات قليلة سقوط مراكز وصعود أخرى.

دلالات