التعاون الدولي في زمن الأحادية المتشدّدة والحمائية

التعاون الدولي في زمن الأحادية المتشدّدة والحمائية

16 يونيو 2018
+ الخط -
من بين أهم المفردات ملازمةً للسياسة عموماً مفردة المفارقة، بالنظر إلى التناقضات التي يتضمنها المشهد نفسه، والموقف نفسه. تلازم يتوافق والتعريف الأكثر بساطةً، وربما الأكثر وجاهةً للسياسة: السياسة فن الممكن. وينطبق الأمر على قمة مجموعة الدول السبع الأكثر تصنيعاً في العالم المنعقدة أخيرا في كندا. يعود إنشاء هذه المجموعة إلى 1975 بمبادرة فرنسية، وأصبحت تسمى مجموعة الثماني بعد انضمام روسيا إليها في 1998، لتعود إلى تسميتها الأصلية بعد استبعاد الأخيرة منها في 2014 بسبب الأزمة الأوكرانية.
تكمن المفارقة، بل المفارقات التي لازمت قمة السبع المنعقدة نهاية الأسبوع الماضي في تشارلفوا في مقاطعة كيبك الكندية، في مديح العمل المتعدّد الأطراف الذي اتسمت به المحادثات بين الرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء الكندي قبيل انعقادها، والمحادثات بين دول المجموعة، باستثناء أميركا خلال هذه القمة. كما طبعها أيضاً مديح الأحادية، المتشددة، التي يتغنّى بها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، منذ وصوله إلى الحكم، مع وابلٍ من الوعد والوعيد. وربما هذه المرة الأولى التي تنقسم فيها مجموعة السبع على نفسها، وبهذا الشكل. ويعد ما حدث فيها محاولة أميركية لتفكيك هذه البنية التي لم تعد مجموعة السبع، وإنما مجموعة "6+1"، على حد تعبير وزير المالية الفرنسي، وكأن الحلفاء (الدول الأوروبية وكندا واليابان) أجبروا بحكم الواقع الذي فرضه ترامب، على أن يتعاملوا مع أميركا كأنها قوة من بين القوى النافذة في العالم، وليس الحليف الاستراتيجي التقليدي، أي أنها شريكٌ، لكنها لم تعد أحد أفراد البيت المتحالف. إنها نقلة استراتيجية نوعية في العلاقة التقليدية العابرة للأطلسي. وربما أخطر مرحلة في عملية فك الترابط بين أوروبا وأميركا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ففي هذه القمة خاصمت أميركا ترامب رسمياً حلفاءها التقليديين.
وربما يتذكر الحلفاء، في هذا السياق المتوتر، المقولة المأثورة: عدو عاقل خير من صديقٍ 
جاهل، فعلى عكس روسيا بوتين التي تتبنى عقلانية سياسية، على الرغم من تسلطيتها، بغض النظر عن المواقف من سياستها، فإن أميركا ترامب ليست عقلانيةً في سلوكها، على الرغم من ديمقراطيتها، وكأن مؤسسات الدولة الديمقراطية الأميركية لم تعد تعمل كما ينبغي. لذا يمكن القول إن مشكلة الأوروبيين ليست فقط في توجهات ترامب السياسية، وإنما أيضاً، إن لم نقل خصوصاً، في مزاجه المتقلب، وفي نمطه في الحكم بمقتضى الهوى، ما يزيد من درجة اللايقين في العلاقات الدولية عموماً، وفي العلاقة العابرة الأطلسي التي لم يسبق أن عرفت هذه الحالة من الارتباك واللايقين، بسبب خلافاتٍ حول قضايا أساسية (العمل المتعدّد الأطراف، التجارة، المناخ، الترتيبات الأمنية ذات الأبعاد الاستراتيجية – الاتفاق النووي الإيراني)، وخصوصا فقدان التوقيع السياسي لأميركا لأية مصداقية. ويعود سحب ترامب تأييده بيان قمة السبع الذي وافق على صوغه، ساعات قليلة من نشره، إلى مزاجه المتقلب وعدم اكتراثه بالالتزامات الدولية التي قبل بها باسم بلاده، ما جعل الحلفاء أمام سابقة تاريخية: لم يعد للتوقيع الأميركي مصداقية. وجاء رد فعل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، صباح يوم الأحد الماضي، مركّزاً على هذا الجانب الإشكالي، إن لم نقل الصبياني، في سلوك ترامب. حيث اعتبر أنه "لا يمكن للتعاون الدولي أن يكون مرهوناً بالغضب والكلمات الصغيرة"، في إشارةٍ ضمنيةٍ إلى تغريدات ترامب الكثيرة والمتناقضة.
حاول أصحاب مديح العمل المتعدّد الأطراف إقناع ترامب بأن الحمائية خطر على الاقتصادين، العالمي والأميركي على حد سواء. ويمكن تلخيص أهم الحجج التي قد يقولون بها سعياً إلى إقناعه في العناصر التالية. أولها أن العجز في الميزان التجاري غير مرتبط بالضرورة بالتعرفات الجمركية، فدول الاتحاد الأوروبي يعاني بعضها من العجز، فيما يحقق بعضها الآخر فائضاً تجارياً، على الرغم من عدم وجود تعرفات جمركية بينها (حجة أوردها أيضاً الرئيس الفرنسي). ثانيها، أن الحمائية مضرّة بالمبادلات الاقتصادية، لأنها تقود بالضرورة إلى إجراءاتٍ حمائيةٍ مضادةٍ، وبالتالي إلى تهديد الاقتصاد العالمي. ثالثها أن مؤسسات النظام الاقتصادي والمالي العالمي، ولا سيما منظمة التجارة العالمية ضرورية، وهي بحاجة إلى مزيد من التطوير والدعم، حتى تقوم بالدور المنوط بها مواكبةً لتحولات العولمة. ثالثها ضرورة العمل الجماعي والمتعدّد الأطراف، من أجل تعميم قاعدة المعاملة بالمثل في مجال تحرير التجارة، واستبعاد الإجراءات الأحادية الجانب التي تضر بمن يتبناها، كما تضر بغيره. رابعها، أن العلاقة الاستراتيجية التقليدية بين ضفتي الأطلسي لا يمكن التضحية بها، بسبب خلافات حول الرسوم الجمركية. خامسها أن الدول الأكثر فقراً هي التي ستتضرّر من الحمائية الاقتصادية (حجة يقول بها صندوق النقد الدولي)، خصوصا أن قدرة هذه الدول على اتخاذ إجراءات حمائية مضادة معدومة. لكن المشكلة بالنسبة للاقتصاد العالمي ليست الدول الفقيرة، وإنما القوى التجارية الكبرى (الولايات المتحدة، الصين، الاتحاد الأوروبي...) بالنظر إلى الحجم الضخم لمبادلاتها التجارية، ومن ثم قدرتها الهائلة على تبنّي إجراءات حمائية وإجراءات مضادة. سادسها التشكيك في الحجة القانونية التي على أساسها قرّر ترامب إجراءاته الحمائية، أي الادعاء بالأمن القومي. وهذا ما يرفضه الحلفاء، بالنظر إلى العلاقة الاستراتيجية التقليدية بينهم وبين أميركا.
على أية حال، تندرج كل هذه الحجج ضمن عنوان واحد، هو مديح العمل المتعدّد الأطراف، مديح تبرّره عدة عوامل. فحلفاء أميركا (أوروبا واليابان وكندا) يؤمنون بأن تحرير التجارة العالمية مكسبٌ لا يمكن التفريط فيه والتراجع عنه، لأنه محرّك النمو الاقتصادي العالمي. ولدى هؤلاء قناعةٌ فحواها أن العمل المتعدّد الأطراف هو السبيل الوحيد لحل مثل هذه الخلافات، ولتسيير التجارة العالمية وفق قواعد يتفق عليها الجميع، ويطبقها الجميع. وهذا ما يفسر تمسّكهم بمنظمة التجارة العالمية، وبضرورة تطويرها. ويعلم الحلفاء أن لا ثقل لهم فرادى في مواجهة الولايات المتحدة. وبالتالي، عليهم العمل سوياً في إطارٍ متعدّد الأطراف، يكون عالمياً وليس غربياً فقط، بالتحرّك أيضاً في إطار مجموعة العشرين. وبما أن حلفاء أميركا الأساسيين، من حيث القوة (اليابان، ألمانيا، بريطانيا، فرنسا، كندا...) يتضرّرون مباشرةً من الإجراءات الحمائية الأميركية، لاستهدافها منتجاتهم، فمصلحتهم القومية تفرض عليهم التنسيق والتعاون مع القوى الدولية الأخرى غير الغربية.
لكل هذه الأسباب مجتمعة، أكدت الدول المعنية خلال قمة السبع في كندا تمسّكها ببيانها الختامي، وشجبها عدم احترام أميركا التزاماتها الدولية، مشيرةً إلى أنه حتى، وإن كان البيان الختامي للقمة يفتقر إلى الصبغة القانونية الإلزامية، فإنه ملزمٌ سياسياً وأخلاقياً. في انتظار ما ستسفر عنه التطورات بين ضفتي الأطلسي مستقبلاً، من الجلي أن أميركا تبتعد تدريجياً عن أوروبا، بل وعن العالم. فهل ستكون الغلبة لمديح العمل المتعدّد الأطراف على حساب مديح الأحادية المتشدّدة؟ وهل يمكن للأوروبيين تحديداً المراهنة على تحول شعار ترامب "أميركا أولاً" المرغوب فيه أميركياً إلى شعار "أميركا وحدها" (أميركا من جهة والعالم من جهة أخرى)، بسبب سياسته الحمائية، بشكلٍ يرفع من مخاطر عزلتها عالمياً؟
مآل هذه المراهنة مرتبطٌ جزئياً بعلاقة أوروبا بالصين وروسيا، علماً أن أميركا ترامب تراهن 
هي الأخرى على التنافر/ التباعد الأوروبي - الروسي. فعلى عكس الأوروبيين الذي يشترطون تقدماً في تسوية الأزمة الأوكرانية لعودة روسيا لمجموعة السبع، يطالب ترامب بعودتها، بغض النظر عن هذه الأزمة. ويبدو أنه يحاول الاستفادة من هذه المفارقة: الاقتصاد يجمع أوروبا وروسيا والسياسة تفرّقهما. أما الصين، فقد سارع ترامب إلى التوقيع على اتفاق تجاري معها، مطلع مايو/ أيار، بعد أن صبّ جام غضبه عليها، محاولاً تحييدها للحيلولة دون تشكل تحالف اقتصادي ثلاثي ضد قراراته الحمائية. لكن بما أن الأخيرة ستضرّ اقتصاديات هذه الدول، ونظراً لتقلب مزاج ترامب، فإن لا أحد يأمنه. لذا، من غير المرجح أن تكلل مناوراته بالنجاح. فمن يخذل بل ويخاصم حلفاءه لن يتردّد إطلاقاً في ذلك حيال خصومه.
تستفيد الصين وروسيا من الخلافات بين أميركا وحلفائها، لأن هؤلاء سيسعون، بطريقة أو بأخرى، إلى التقرب منهما لموازنة أميركا ترامب. إنه وضعٌ غير مسبوق، سمح لبوتين بالتهكم على طريقته لما وصف، خلال قمة منظمة شنغهاي، ما حدث في قمة السبع بالمشهد الصبياني. وجاءت قمة منظمة شنغهاي للتعاون (بزعامة الصين وروسيا)، المنعقدة تقريباً بموازاة قمة السبع، كأنها تقدّم نفسها منافسا لها، خصوصا أن من غير المنطقي اليوم ألاَّ تضم مجموعة الدول الأكثر تصنيعاً في العالم الصين، ثاني اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة. إنها مفارقة أخرى للسياسة العالمية اليوم، في سياق صراعٍ بين مديح العمل المتعدّد الأطراف ومديح الأحادية المتشدّدة، والتباعد بين ضفتي الأطلسي؛ ففي وقت الذي تكاد تُقطع فيه شعرة معاوية تماماً بين ضفتي الأطلسي تزداد الصفوف الصينية - الروسية تحصيناً.