عن استراتيجية تونس الجديدة ضد الفقر

عن استراتيجية تونس الجديدة ضد الفقر

15 يونيو 2018

تونسيون يتظاهرون في تطاوين يطالبون بالتنمية (11/4/2017/فرانس برس)

+ الخط -
تعتبر تونس في المنطقة العربية والدول النامية رائدة في سياستها التنموية الاجتماعية، فقد بادرت دولة الاستقلال، والحكومات التي تلتها، إلى وضع سياسات وبرامج، شكلت منظومة اجتماعية عالجت آفة الفقر، وسعت إلى وضع تصورات وآليات تنفيذية، لتحسين ظروف عيش الإنسان التونسي في تلك المرحلة.
ولتنفيذ هذه المنظومة، تم تخصيص موارد مالية مهمة من خلال التحويلات الاجتماعية، علاوة على إعداد ترسانة قانونية وترتيبية مناسبة، ما أفضى إلى تسجيل نتائج مهمة، علاوة على ما مكّنه التدخل العمومي في المجال الاجتماعي من ترسيخ الأثر المباشر للنمو الاقتصادي على تراجع الفقر، وهو ما سمح لتونس بتحقيق الأهداف الألفية للتنمية في مجال مقاومة الفقر. وقد تميزت هذه المنظومة، خصوصاً بنظام الضمان الاجتماعي الذي كان نموذجاً اهتدت به المغرب والسنغال وغيرهما..
إلا أن ثورة جانفي (يناير/ كانون الثاني) 2011، ذات البعد الاجتماعي العميق هي الأخرى، كشفت الضعف الهيكلي ومحدودية هذه السياسة الموصوفة بالفوارق الاجتماعية الواضحة، وبالتالي غياب العدالة الاجتماعية. كرست هذه الثورة ملامح (ومكونات) المشروع المجتمعي التونسي الجديد، المبني على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة والإنصاف، قيماً أساسية ومبادئ تؤمّن بناء منوال تنمية شامل ودامج. وقد تجسمت هذه المقاربة التوافقية بإقرار العقد الاجتماعي الموقع في 14يناير/ كانون الثاني 2013 بين الحكومة والأطراف الاجتماعية، وإصدار الدستور الجديد في 27 يناير/ كانون الثاني 2014، وإعداد المخطط الاقتصادي والاجتماعي 2016 – 2020.
ونتيجة ذلك، تضمن مخطط التنمية الاقتصادي والاجتماعي الجديد محوراً للتنمية البشرية 
والادماج الاجتماعي، مسنداً للدولة دوراً استراتيجياً في مجال دعم التماسك الاجتماعي، ومقاومة الفقر، وتقليص الفوارق الاجتماعية الجهوية، وإعادة النظر في نظام الضمان الاجتماعي، فقد كشف التشخيص الذي تم، والمعطيات الإحصائية بعد ثورة 2011، عن بلد مقسم إلى إقليمين: المناطق الساحلية التي تسجل مؤشرات تنمية تفوق المعدل الوطني، والجهات الداخلية والغربية ذات المؤشرات التنموية الضعيفة. ما يترجم انخراماً في التوازن بين الشريط الساحلي التونسي والمناطق الداخلية بتمركز ثلثي السكان، و87% من النشاط الصناعي، و90 % من الأنشطة السياحية في المناطق الساحلية.
وقد أبرزت هذه المعطيات الإحصائية، خصوصاً بقاء نسبة الفقر مرتفعة، على الرغم مما شهدته من تراجع. وقد سجل المسح الوطني بشأن الميزانية والاستهلاك ومستوى عيش الأسر التونسية لسنة 2015 نسبة فقر إجمالية، تقدر بـ 15.2%، ونسبة فقر مدقع بـ 2.9 %. ويزداد الوضع تردياً على المستوى الجهوي وداخل الجمهورية، من خلال نسبة الفقر المرتفعة المسجلة في مناطق الوسط الغربي، والتي قدرت بـ 30.8% سنة 2015، يليها الشمال الغربي التونسي الذي قدرت فيه نسبة الفقر بـ 28.4 % والجنوب الغربي بنسبة 17.6%. مع بروز مؤشر الفقر المدقع في هذه المناطق، لتبلغ نسبته 8.4%، علاوة على بروز تفاقم البطالة التي تجاوزت 15.3% خلال سنة 2017، خصوصاً لدى حاملي شهادات التعليم العالي بنسبة 31.2%، ولدى الفتيات منهم بحوالي 40 %. وقد سجلت جهات داخلية، على غرار القيروان وقفصة وتطاوين وجندوبة، نسباً قصوى للبطالة، تجاوزت في بعضها 32%. وهو ما عمّق الفوارق بين الوسطين الحضري والريفي. وكان سببا مباشرا في بروز ظواهر اجتماعية جديدة على المجتمع التونسي. أهمها ظاهرة "الحرقة"، أو الهجرة غير الشرعية، والاقتصاد الموازي وانتشار العنف والجريمة والانقطاع المدرسي المبكر، وصولاً إلى ظاهرة الانتحار في أوساط الشباب والأطفال.
وتبعاً لذلك، اعتبر المختصون هذا الوضع نتيجة حتمية لتلاشي المنوال الاقتصادي، ولنقص التنسيق والتكامل بين مختلف البرامج الاجتماعية التي تم وضعها، بالإضافة إلى غياب التقييم الآلي والمنتظم لأثر هذا المنوال التنموي على الفئات الاجتماعية المعنية.
والواقع أن الدولة التونسية عملت على تجاوز هذه الصعوبات، وشرّعت هياكلها وأجهزتها، وفي مقدمتها وزارة الشؤون الاجتماعية والأطراف الاجتماعية، في القيام بجملة من الإصلاحات، بالاعتماد على العقد الاجتماعي سالف الذكر الذي يأخذ بالاعتبار تطلعات الفئات الاجتماعية الهشّة، وحقيقة الوضع الاقتصادي في البلاد. وستمثل في هذا المجال "أجندا 21" للأهداف الجديدة لسنة 2030 إطارا سياسيا ومؤسساتيا وأخلاقيا، لبذل كل الجهود من أجل الحد من الفقر متعدّد الأبعاد، استئناساً بالتجارب الناجحة، على غرار تجارب البرازيل وفيتنام وتركيا وغيرها، كما باشرت الدولة التونسية إصلاحاً عميقاً لنظام الضمان الاجتماعي، باعتباره آلية مهمةً لمقاومة الهشاشة الاجتماعية.
وبالنظر إلى كل ما سبق، أطلقت تونس استراتيجية جديدة للإدماج الاجتماعي، ومقاومة الفقر 
متعدّد الأبعاد، أبرز مقوماتها قيام هيكل متعدّد الاختصاصات، تحت مسمى "الوكالة الوطنية للإدماج الاجتماعي ومقاومة الفقر"، تخضع لإشراف رئاسة الحكومة، ومأسسة آليات التدخل المشتركة، وإعادة تنشيط مقاربة التنمية الاجتماعية والمجتمع المحلي، والحد من نسبة الفقر، وخصوصاً في الجهات الداخلية المهمشة، واستنباط واستحداث برامج جديدة وآليات مبتكرة، من شأنها أن تسهم في تحقيق العدالة الاجتماعية، علاوة على وضع جملةٍ من البرامج والآليات، لتجسيم هذه الأهداف.
الإضافة التي أحدثتها هذه الاستراتيجية الجديدة التي انطلقت ببعد تشاركي، تنخرط فيه مختلف الأطراف الاجتماعية والحكومية، هي في اعتبار الفقر ظاهرةً متشابكةً يتداخل فيها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتربوي. والتي جاءت لتعزّز منظومة الاستراتيجيات القطاعية الأخرى التي أطلقتها وزارة الشؤون الاجتماعية، على غرار الاستراتيجية الوطنية للهجرة واستراتيجية ثقافة المؤسسة والمدن العمالية والتصرّف الإلكتروني والمعلوماتي والاستراتيجية الوطنية لمحو الأمية وتعليم الكبار.
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي