سورية وضرورة العلمانية حلا

سورية وضرورة العلمانية حلا

14 يونيو 2018
+ الخط -
يمكن القول إن العلمانية مفردة تداولها الناس كثيرًا، من دون أن يعرف معظمهم معناها أو مدلولها، بل هي بالنسبة إلى الغالبية من أفراد شعوب منطقتنا التي وُعدت بربيع عربي، تم استبداله بكل كوارث الطبيعة والبشر من عواصف وأعاصير وزلازل، لفظة شيطانية، لا فرق بينها وبين الإلحاد أو الشرك.
العلمانية التي هي بأبسط تعريف الفصل بين الديني والدنيوي، الزمني والروحي، لم تأتِ بحمولتها المعرفية من الفراغ، بل هي نتيجة سعي واجتهاد من المفكرين الإنسانيين منذ القدم. ويمكن القول إنها أخذت بالنضج والتبلور منذ عصر النهضة الأوروبي، نتيجة الإنجازات الفكرية والثقافية التي تميز بها ذلك العصر، واستمرت هذه الفكرة في الحضور والتداول في المنتج الثقافي حتى القرن السابع عشر، بأن أصبحت منهجًا فكريًا أول من أشار إليه سبينوزا، عندما أكد أن "الدولة كيان متطور، وتحتاج دومًا للتطوير والتحديث، على عكس شريعة ثابتة موحى بها".
ثم استخدمت كلمة "العلمانية" للدلالة على هذا المنهج الفكري القائل إنها ليست ضد الدين، وإنما مستقلة عنه، وهي لا تسعى إلى فرض مبادئها على من لا يريد الالتزام بها، كما عرفها الكاتب البريطاني، جورج هوليوك، في منتصف القرن التاسع عشر. وصارت العلمانية نهجًا فكريًا نظريًا وتطبيقيًا، يؤمن به ويمارسه الأفراد في المجتمعات. وتُصنف الدول العلمانية وفق دساتيرها، فمنها ما يُذكر في دستورها بشكل صريح أنها علمانية، ومنها ما يتجاهل الموقف من الدين، من دون الإفصاح عن علمانية الدولة. وبعضها كحالتنا في سورية، ينص الدستور على أن دين الدولة الإسلام، وتُرفع الشعارات الطنانة بشأن علمانية الدولة والمجتمع، باعتبار أن هناك حزبًا كان يقدّم نفسه قائدا للدولة والمجتمع، استأثر النظام السياسي بالحكم خمسة عقود متكئًا عليه.
في الواقع، لم تكن سورية دولة علمانية، ولم تسعَ الحكومات المتعاقبة إلى تنوير الوعي العام 
مع كل الشعارات المطروحة التي كانت تُدرس، من أول الصفوف التعليمية في المدارس حتى محاضرات الجامعات، مع أقوال الرئيس الخالد، فلا الشعب عرف ما هي الديموقراطية ولا الحرية ولا العدالة الاجتماعية ولا العلمانية، بل كانت كلمات وجملاً صماء، على الأجيال أن تردّدها مثل الصلوات، ولا النظام السياسي مارسها لتكون ممارسته دروسًا تطبيقية يفهمها الشعب. لم تدخل هذه المقولات التي يتأسس عليها الوعي الجمعي في الدول التي يتمتع أفرادها بكل الحقوق الإنسانية منظومة القيم والمعارف لدى شعوبها فجأة أو بالقسر والإكراه، إنها ثقافة نضجت خلال الزمن ومع التجارب، سبقها عصر تنوير، ودفعت الشعوب كثيرًا بتجارب مريرة، حتى رسخت هذه المفاهيم والقيم، فصارت ركنًا أساسيًا من وعيها وسلوكها.
التناقض الذي عاشه الشعب السوري بين الشعارات والتطبيق المغاير أو المعاكس تمامًا، مع الجنوح بشكل مبرمج وممنهج نحو تعزيز الوازع الديني لدى شرائح الشعب، أدى إلى نفورٍ من العلمانية ومحاربتها، باعتبارها بدعةً شيطانية. وفي الواقع جنحت أيضًا فئة كبيرة من المعارضة التي نصبت نفسها ممثلةً للشعب السوري، بعد انتفاضته، إلى رفض العلمانية بالكامل، خصوصا الجماعات الإسلامية، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين الذين كان لهم التأثير الأقوى في الهيئات المعارضة، وحاولوا الالتفاف على المصطلح، وطرح مصطلح بديل، هو مدنية الدولة.
هذه العلمانية المنبوذة لدى شريحة كبيرة من الشعب السوري، باعتبارها دعوة إلى الإلحاد كما يعتبرونها، تبيّن أنها يمكن أن تُمارس سلاحا ذا حدين، أو بطريقةٍ ذرائعية. ومن يتابع بعض الصفحات الخاصة باللاجئين السوريين على شبكات التواصل الاجتماعي، وما أكثرها، حيث يتداولون بأمر اللجوء والاحتياجات الحياتية وسبل العيش، وسبل الاحتيال على القانون الألماني أحيانًا، أو على الأقل التعامل معه كما كان الوضع في سورية، كقانونٍ من الممكن الاحتيال عليه، أو خرقه، أو انتزاع الاستثناءات منه، سوف يرى أن العلمانية أيضًا من الأمور المطروحة للنقاش، وغالبًا بالصراخ والشتيمة. اقترح أحد أعضاء إحدى الصفحات موضوعًا للتصويت، وكسْبِ المؤيدين له من أجل المباشرة بتنفيذه، وهو باعتبار أن ألمانيا بلد علماني، بالحرف كما جاء في الاقتراح، فمن حقنا التظاهر من أجل منع خروج الألمانيات بالشورت واللباس غير المحتشم، خصوصًا "أننا صائمون"، وبخروجهن بهذه الطريقة يرميننا بالغواية والفتنة، فيفسد صيامنا. ولنطالب بمنع شرب البيرة في الشوارع، هذا حقنا، وألمانيا بلد علماني، يجب أن يمنحنا فرصة التظاهر، للتعبير عن طلباتنا حتى تُنفذ.
من حيث المبدأ، تبين أن السوري الذي كان يحارب العلمانية في بلده، بسبب ممارسات نظامٍ يطرحها شعارًا خلبيًا، ويمارس عكسها، وبسبب القمع الذي عاناه من هذا النظام، هذا السوري تبيّن أنه يخلط بين مفاهيم الديموقراطية وحرية التعبير والعلمانية، ولكن من وجهة النظر التي تخدم فكره وعقيدته ومنهجه في الحياة، فعبّر بذرائعيةٍ واضحةٍ عن رغبةٍ تحمل نزعةً إقصائيةً وتسلطيةً، مستندًا إلى فكرة العلمانية التي خلع عنها ستار الشيطنة، وصارت وسيلة أو ذريعة للمطالبة بحقوقه، من دون أن يعترف بحق الآخر الذي بنى حياته في مجتمعٍ على أسسٍ دفع الشعب ثمنها باهظًا، حتى وصل إلى ما وصل إليه.
يريد سوريون كثيرون هجرتهم الحرب، وجاءوا لاجئين إلى ألمانيا، من شعب هذا البلد، أن 
يتغير، ليتلاءم مع منهج الحياة التي اعتادوا عليها في سورية، وليسوا مستعدين لأن يتنازلوا قليلاً ليحققوا حالة من الاندماج، علمًا أن غالبية الشعب الألماني يتفهمون محنتهم، ويتفهمون ثقافتهم ويتقبلونها وينفتحون عليها، ولا يشكل العنصريون المتعصبون والمتحفظون تجاه اللاجئين، أو الرافضون لهم، إلا نسبة قليلة، على الرغم من أن هذه الشريحة من العنصريين تنمو بعض الشيء، ويزداد عدد مؤيديها. ولا يمكن إنكار الممارسات العنفية التي تقوم بها جماعاتٌ تنحدر من الإسلام الجهادي المتطرّف ضد تلك الشعوب.
وعلى مستوى اللاجئين هناك سلوكياتٌ عدائيةٌ تجاه الألمان، رافضة عاداتهم وأساليب حياتهم، وتحاول التدخل في منظوماتهم القيمية وطرق عيشهم. ولو مُنح السوريون فرصة التنوير والعيش بكرامة، واحترامٍ لحقوقهم بما يجعلهم يشعرون بإنسانيتهم وبدورهم المهم في الحياة، وأنهم غير محاصرين في الهوامش الضيقة، ربما عاشوا بمنطق العلمانية قبل أن يفهموها، ولكانوا استنبطوها من تلقاء أنفسهم، فعند الاطلاع على الواقع السوري في الفترة الذهبية، بعد جلاء الفرنسيين وفي بداية المشاريع النهضوية الحالمة، يمكن ملاحظة أن المجتمع السوري كان، إلى حد ما، يمارس علمانيته الخاصة، لكن النكبات والنكسات التي ابتلي بها، والانقلابات العسكرية والحكم بأنظمةٍ شموليةٍ قمعيةٍ كل ما كان يهمها عدم الاقتراب من عرشها، والباقي كله مباح، حتى لو تحول المجتمع إلى كتلةٍ بشريةٍ، يضبط حياتها رجال الدين وأعراف القبيلة وضوابط الطائفة، أدى إلى نكوص المجتمع السوري، وانقسامه غير المعلن إلى فئات وطوائف وشرائح، تضمر مشاعر سلبية ضد الآخر، وكلها تعيش تحت رحمة مظلوميةٍ تاريخيةٍ أو معاصرة، من طائفية ومذهبية وقومية.
العلمانية، كما تظهر تجارب شعوب كثيرة بنت دولها، وازدهرت أممها، هي الحل الأكثر ملاءمةً للعيش المشترك في بلدٍ متعدّدٍ قوميًا وعرقيًا ودينيًا وطائفيًا مثل سورية، أظن أنها الهدف الأكثر ضرورةً لبناء سورية بعد قيامتها.