سبعون نكبة، وإحدى وخمسون نكسة

سبعون نكبة، وإحدى وخمسون نكسة

14 يونيو 2018
+ الخط -
(1)
هذه ليست "لطمية" نستدعي فيها الكارثة، بقدر ما هي محاولة للنهوض، سبعون نكبة مرت، وليست الذكرى السبعين للنكبة، وإحدى خمسون نكسة أيضا، عبرت على أجسادنا، لا ذكرى نصف قرن، ففي كل عام كان ثمّة جدار ينهار من البيت، حتى تحول البناء الجميل إلى محض عراء، تصفر فيه الرياح.
هل كانت مؤامرة؟ ولم لا، هي كذلك بكامل نصابها، لا ينقصها شيء من "الأنصبة". مؤامرة تكشفت خيوطها دفعة واحدة في ربع الساعة الأخير، فما كان مكرا بليل تحول إلى تغريدات على "تويتر"، وما كان مخططاتٍ في الغرف المغلقة أضحى سيناريوهاتٍ يقذف بها "البوربوينت" على جدار أبيض أملس، وما كان يُهمس به سرّا أصبح صراخا تلقيه حناجر جهورية من على المنابر. وغدا للهزيمة مهندسون ومروجون وكتاب وفلاسفة ومفكرون، ومغرّدون وتنويريون بالطبع، وكاد مؤلفو الأغاني أن يتحفونا بأناشيد الاستسلام والانبطاح تحت عجلات دبابات العدو القادمة لتسويتنا بالتراب، وانضم إلى الجوقة "رجال دين" طاعنون بالتقوى والدجل، يتحدثون بكل ورع عن أبناء العم الذين كانوا بالأمس أبناء قردة وخنازير وقتلة أنبياء.
نحن اليوم نعيش عصر الفضيحة التي يتباهى بها أطرافها، كما تتباهى أم العروس وقريباتها بدم البكارة التي فضّها العريس الفحل.
سقطت كل الأقنعة، وسقطت معها جلود وجوهٍ لطالما تزيّت بالفضيلة والوطنية والقومية، والإيمان بـ "قضية العرب الأولى"، واكتشفنا أننا كنا قطيعا من المضحوك عليهم، من قبل قبيلة وجحافل من المغضوب عليهم الذين باعونا، أو قل "وهبونا" فداءً لأرواح شهداء لو عادوا إلى الحياة لفضّلوا أن يمتهنوا مهنة أخرى غير الموت مجانا، ولاكتشفوا أنهم ضحّوا بأرواحهم فداءً لعصاباتٍ من الخونة والمتآمرين ومصاصي الدماء، فما كان يسمّى "نظاما عربيا" لم يكن غير مافيا من قطّاع الطرق وعبّاد الكراسي، ويا لهذه الكراسي.. كم ذُبحت على أطرافها أوطانٌ كي تبقى وثيرةً بما يكفي ليجلس عليها ذئابٌ يرتدون ملابس بيضاء، وأطقما من الجوخ الإنكليزي الفاخر، استبدل فيما بعد بماركات أميركية وأوروبية باذخة.
(2)
سبعون نكبة، وإحدى وخمسون نكسة، وثمّة ملايين من الأرواح ديست بنعال أعضاء العصابة 
إياها، أو أحرقت في أتون التآمر، ورفعت على جثثهم أعلام استقلالٍ كاذب، وصدحت الحناجر بأناشيد وطنية، وفرشت تحت الأقدام سجاجيد حمراء، لو عصرت لنزّت منها دماء الضحايا، سبعون، وخمسون. ولم تزل الأكفّ تتوسّد الخدود، انتظارا لأذانٍ يعلن انشقاق فجر، وكلما بدا خيط أبيض يمزّق ثوب الليل الأسود، ظن المنتظرون أن الفرج دنا، ليكتشفوا أنه محض فجرٍ كاذب، حتى لم يعد أحدٌ ينتظر أحدا، فانشغل المنتظرون بالركض خلف رغيف خبزهم، وما كثير منهم بمدركيه.
ومن المفارقات المبكية المضحكة أن الكاذب الذي أدمن الكذب وجد مدمنا آخر أدمن تصديقه، فاستمرّت اللعبة كل هذه السنين، حتى ملّ الكاذب من كذبه، فقرّر أن يكفّ عن كذبه، ويجاهر بكل ما فعل، ويفتخر به، بعد أن أيقن (أو هكذا بدا له) أنه لا يوجد أمامه من يملك مجرد إصبعٍ يضعه في عينه، ولو قرأ نفرٌ من المضحوك عليهم، ولو كلمةً مما قيل على لسان القلة القليلة ممن صدقت، وأبلت بلاءً حسنا في الذود عن العرض والأرض، لما استمرت الملهاة سبعين نكبة وخمسين نكسة، ويكفي أن نستذكر هنا عينةً صغيرةً من تلك الكلمات الصادقة، قالها قائد تمرّد على "الهدنة!" التي وقعها العرب مع اليهود، والنكبة في أوجها: (يا أهل فلسطين، بيعوا أبناءكم واشتروا السلاح، لأن العرب قد باعوكم).
هذا القائد هو عبد الله التل، أحد أبطال حرب فلسطين، وأكاد أجزم أن أحدا من جيل اليوم لم يسمع حتى باسمه، وأنا على يقين أن أيا من كتب التاريخ العربية التي تدرّس لأبنائنا لم يأت على ذكره، لأن المطلوب الاستمرار في الخديعة، وقتل أي رمزٍ أو شاهد على المؤامرة.
(3)
سبعون نكبة وإحدى وخمسون نكسة، وابتدأ العد العكسي، وقُلبت ساعة الرمل، فنحن الشعوب مقبلون، وهم أساطين الحكاية وحملة صولجانات التآمر مدبرون، وتلك ليست نبوءة، ولا كلام عرّافة، بقدر ما هي حقيقة ساطعة تتحرّق للصراخ في وجوههم، وتشرّع كل أصابعها، لا الوسطى فقط، لتقلع كل العيون التي حرست الشيطان، وأعطته "الأمان"، ليدخل على عذرائهم ويفعل بها ما فعل.