ضد النهش في صلاح الدين

ضد النهش في صلاح الدين

13 يونيو 2018

تمثال لصلاح الدين الأيوبي في دمشق (26/8/2011/فرانس برس)

+ الخط -
كنت أتمشّى يوماً في صيف 1978، أحاور أستاذي المستشرق ديفيد جاكسون في حدائق جامعة سانت أندروس الاسكتلندية. سألته: من هو أعظم الزعماء في نظرك؟ أجابني مباشرة: صلاح الدين الأيوبي الذي كتبت عنه، برفقة الزميل لايونز، كتابا كبيراً. هو بطل حقيقي حاربه المسلمون أكثر من أعدائه الصليبيين! واليوم، تجتاح ثقافتنا العربية عاصفة هوجاء أبطالها مثقفون عرب يعادون تاريخهم، فأخذوا ينهشون فيه وفي رموزه، ويسيئون إلى بعض صفحاته، وتتحكم في أغلبهم نزعاتهم السايكولوجية الموروثة، أو تربيتهم المنحرفة، وتصل حماقاتهم إلى درجة أسوأ من كلّ الأعداء الألّداء لنا في العالم.. أي تتفوق عداءاتهم  ضدّ تواريخهم ورموزهم على كتابات الخصوم من مستشرقين وصهاينة ومناوئين لتاريخنا ووجودنا. وكم تمنّيت أن تتم كتابة التاريخ بموضوعية، وأن يحكم التوازن أصحابها في دراسة الشخصيات المؤشكلة، وفهم الكليّات كاملة من دون اجتزاءاتٍ ينقسم حولها الناس.
لا أحد ينكر ما يمارسه المخالفون العرب، وهم يشوّهون التاريخ، لأسبابٍ طائفيةٍ ومذهبية وعرقية وأيديولوجية.. والمرء يقف، بين حين وآخر، على نماذج منهم، وهم يصدرون أحكامهم القاتلة، وتوصيفاتهم الجائرة، وكأنهم يمتلكون الحقائق بتحريفهم المعلومات، وتشويه كلّ الأسانيد، واختلاقهم شتّى الاتهامات، وتضخيمهم الأخطاء. وهم بلا مناهج نقدية، ولا مصادر موثوقة لديهم، ويمهرون في القدح وإطلاق الشتائم، وكلهم من المتطفلين على كتابة التاريخ.
أطلق يوسف زيدان من مصر وصفا ظالما على صلاح الدين الأيوبي، إذ قال في حواره مع الإعلامي عمرو أديب "إن صلاح الدين واحد من أحقر الشخصيات في التاريخ الإنساني"
(كذا)، واتهمه عدّة اتهامات جائرة، قد لا يكون لها أي أساس من الصحة أبدا.. هنا أتوقف قليلا للرد، فالحقائق التاريخية التي يغيبّها بعضهم لأغراضٍ سياسية وأيديولوجية هي بضاعة هذه الأيام التي تشهد فوضى فكرية ضالة.. فالزعيم صلاح الدين، وهو من أصل كردي، كان بطلاً رياديا تاريخيا قبل أن يلمّع الرئيس جمال عبد الناصر صورته في فيلمٍ أخرجه يوسف شاهين عام 1963 باسم "الناصر صلاح الدين"، ولم يكن مجهولاّ حتى يعرّفنا به عبد الناصر، بل كتب عنه أبرز المستشرقين الكبار، واعتنوا بسيرته ومنجزاته الكبرى ومشكلاته مع معارضيه، ومنهم: هاملتون كيب ورنسيمان وستانلي بول وبوزوورث وكلود كاهن ودي سلان وبرنارد لويس وسوفاجييه وستيفنسون ولايونز وديفيد جاكسون. ووصف أحدهم صلاح الدين بأنه أشرف محارب عرفه التاريخ، كونه أخرج الأعداء الأسرى من ملوك أوروبا والأباطرة ورجال الدين من القدس، من دون أن يمسسهم بأذى، ثم اقتحمها.
أزعم أنني خبرت تاريخ الرجل بجزئياته بعد كتابتي سيرته في سيناريو سينمائي سمّيته "النسر الأحمر.. صلاح الدين الأيوبي" بأكثر من تسعين مشهداً، وكان سيخرجه فيلماً دولياً المخرج الراحل مصطفى العقاد، لكن القدر كان له بالمرصاد، وقد نشر السيناريو في كتابٍ عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع في عمّان في 1997. وعليه، أعتراض على أوصاف مقذعة وشتائم تطلق على هذا الرمز الكبير في تاريخنا الوسيط، والذي يشكّل بإنجازاته علامة تاريخية فارقة، فكيف يمكن أن يكون رمزاً مخفياً أحياه عبد الناصر؟ وإذا كنتم ضد سياسات الرئيس المصري الراحل، فما دخل صلاح الدين بها، حتى يُنعت بأسوأ النعوت؟ علماً أن أغلب الدول العربية اتخذت شعاره رمزا لها، فشعاره "النسر الأحمر".
لأيّ عهد سياسي في التاريخ خطاياه، وكانت كل دول تاريخ الإسلام متصارعة في ما بينها، فالشيعة ضد الأمويين في دمشق، والعباسيون في بغداد ضد الفاطميين في مصر. وكان صلاح الدين محسوباً على العباسيين، وللعباسيين والفاطميين أخطاؤهم، فقد عاشت الدولتان في العصور الوسطى، واكتنز الخلفاء فيهما الأموال، واتبعوا سياسات جائرة. وقد وصل صلاح الدين إلى مصر بطلبٍ من الفاطميين أنفسهم، فكان أن حفظ الرجل مصر وحماها من الصليبيين، ولم يؤسس دولته إلا بعد موت الخليفة الفاطمي الأخير، وأنزل أعلامهم الخضر ورفع أعلام العباسيين السوداء، مغتنماً ضعفها وشللها، فأعلن دولته، والتفّ الناس حوله.. وإذا كان قد عزل من تبقّى من الأسرة الفاطمية الحاكمة، وسجنها كي لا تستعيد قوتها ثانية، فقد أعتق آلاف الجواري والعبيد، كما احتفظ بـ120 ألف مجلد، في حين أمر بإحراق كلّ ما يدعو إلى التشيّع الإسماعيلي. ومن جانب آخر، أعاد إلى مصر هيبتها في وجه الصليبيين، بعد دحره إياهم في معركة دمياط ومعارك أخرى.
تعد إنجازاته انتصاراً تاريخياً، ولا يمكن إنكار دوره العظيم في معركة حطين، أو دوره البطولي والإنساني في فتح بيت المقدس، وفكّ حصارات عسقلان والكرك وصور وعكا وتحرير بلاد الشام من الصليبيين.. وتساقطت من خلاله الحصون وتحرّكات سراياه في عموم فلسطين، وتوحيد المنطقة، وصولا إلى الموصل.. وهذا ما لم يفعله غيره أبدا. أيحقّ، بعد هذا وذاك، أن ينعت صلاح الدين بأنه أحقر الشخصيات في التاريخ؟ علينا أن ندرك أنه لم يحيَ في عصرنا الحديث، حتى تطبّق عليه أحكامه وموازينه، فينبغي اعتبار تجربته ضمن معايير العصور الوسطى.
لا يمكن أن تجد زعيماً ملائكياً ومثالياً بلا أخطاء أو خطايا، فهو إنسانٌ يحكم أنواعاً متباينة من البشر، وأن تاريخ أي زعيم وسيرته يكتنفها الصواب والخطأ. وربما كان الصواب خطأ عند بعضهم، والخطأ صواباً عند بعضهم الآخر، وخصوصاً أن مجتمعاتنا الإسلامية قد احتدمت تنوّعاتها، وتعدّدت فصائلها، وتباينت أفكارها واختلفت سياساتها ومعتقداتها.. وإذا عرفنا حجم ذلك التنوع والاختلاف على عهد صلاح الدين، أدركنا ثقل المسؤولية التي تقلّدها الرجل، علماً أنّ كلّ المؤرخين أكدوا أن إنجازاته الكبرى في التاريخ حمايته مجتمعات الشرق الأوسط قاطبة من التشرذم والتفكك والضياع، فقد نجح في توحيدها وانتصارها على أعتى الأعداء، وردّ كيد 
الحملات القاسية التي عاثت في بلداننا فساداً عشرات السنين.. فكيف يكون صلاح الدين حقيراً إذا غلبنا قوّة إيجابياته على أخطائه في الداخل؟ وحتى إن اتبع سياسة قاسية ضدّ معارضيه المتمرّدين من الحشاشين والباطنيين وأرتال الخونة، أمثال جوهر، والمتآمرين أمثال كمشتكين، وكلهم كانوا يناوئونه الحكم لفقدان الخلافة الفاطمية من مصر، وهم من بقاياها، بإثارتهم الفتن والاضطرابات، كما حيكت جملة مؤامرات داخلية وخارجية ضده، فهل يتركهم يفعلون ما يريدون، وقد حاولوا اغتياله مرات؟
من يقرأ سيرة صلاح الدين الأولى يجده مثقفاً من الطراز الأول، وكان يحفظ ديوان الحماسة لأبي تمام، وقد تضلع في علوم الدين والدنيا والحياة، كما أنه تربّى في قصور الأتابكة الزنكيين، سواء في طفولته في الموصل أم في شبابه في دمشق، واكتسب من أدبياتهم وأخلاقياتهم الكثير، وأرسله السلطان نور الدين زنكي إلى مصر، من أجل إنقاذها من الصليبيين، بطلب من خليفة الفاطميين، وكانت تعاني ضعفاً وتفككاً في أواخر عهدهم، ليغدو وزيراً فيها في ظلهم، ثمناً لما قدّمه لمصر ضد تهديدات الصليبيين وفرسان الاسبتارية البحريين (جماعة دينية صليبية).
عانت الخلافة الفاطمية شللاً وانهياراً، وانتهت على يديه بعد موت الخليفة الأخير العاضد، وانتهوا بعد مضي قرابة 250 عاما في الحكم. وعلى المؤرخ أن يعلم كم حاربه الأعداء في الداخل.. وإذا خضع أحد المؤرخين لإرادته، فإنّ جملة مؤرخين كبار سجلوا أدقّ المعلومات، كابن الأثير، والأصفهاني، والبنداري، وأحمد بن إبراهيم الحنبلي، وأبو شامة، وابن شداد، والقلقشندي، وابن واصل، والوهراني، والقاضي الفاضل، والمقريزي، وغيرهم. ولم يسبّح هؤلاء بحمده، بل كتبوا سيرته كما جرت.. وأخضعت أعمالهم للنقد والتحقيق العلمي في العالم. لنكن موضوعيين في كتابة تاريخنا، وأن لا تنساق ثقافتنا العربية إلى تشويهه، بل إخضاعه للمقارنات الموازية، وتحكيم الضمائر بمعزل عن العواطف والانتماءات.