تلك المسرحية في النمسا

تلك المسرحية في النمسا

12 يونيو 2018
+ الخط -
حسنا فعلت المنظمة المعنيّة بالمغتربين الأتراك في النمسا، والتابعة لجهةٍ رسميةٍ في تركيا، أنها أعلنت استياءَها من تنظيم عرضٍ مسرحيٍّ لمجموعة أطفالٍ في مسجد في العاصمة فيينا، وأقالت المسؤول عنه، وقالت إنه ما كان يجدر تمثيل معركةٍ في مسجد، واستخدام أطفالٍ في مشاهدها. والبادي أن استثمارا إعلاميا للحادثة، تصاحبُه أنفاسٌ عنصريةٌ ظاهرة، يجري منذ أيامٍ في النمسا. وليس مستبعدا أن تعمد السلطات إلى إغلاق المسجد الذي جرى فيه العرض المسرحي، المتعلق بمعركةٍ عثمانية، في أثناء الحرب العالمية الأولى، كان من أغراضها حماية النمسا، الحليفة آنذاك مع الدولة العثمانية، في مواجهة البريطانيين والفرنسيين، وخسر فيها الأتراك نحو 90 ألف جندي. وإذا ما فعلتها سلطات الحكومة اليمينيّة المتطرّفة، وأغلقت المسجد موضوع القضية، فسيكون ثامن مسجدٍ يغلقه مستشار النمسا، سيباستيان كورتس، ضمن حملة متشدّدة أطلقها، وطرد في غضونها 90 إماما. والمعلوم أن معظم المساجد في البلاد تتبع تركيا، وأغلب الأئمة أتراك، بالنظر إلى أن نحو نصف مسلمي البلاد (360 ألفا) أتراك، ما قد يسوّغ القول إن الإجراءات النمساوية التي تتسق مع موقف الحكومة الراهنة السلبي من المهاجرين، والمسلمين واليهود، إنما تأتي استهدافا لتركيا نفسها، في غضون العلاقات المتوترة حاليا بين أنقرة وفيينا. 

كأن المسلمين في تلك البلاد تنقصُهم أسبابٌ لتأزيم علاقة السلطة بهم، وكأن الصحافة في النمسا غير منشغلةٍ بما يفعلون ولا يفعلون، وكأن تشخيص أطفالٍ حربا، يحملون فيها السيوف، ويلبسون أردية القتال، ويتجندلون شهداء وجرحى، في مسجدٍ وليس في أي مكان، لا يستثير أحدا، ولا يبعث على إثارة الأسئلة بشأن فئةٍ من الناس، يستهويها الموتُ في المعارك، ولا ترى في التاريخ غير الدماء. ثمّة نقصانٌ في الحكمة، وسوءٌ في تقدير الموقف، فهذه جمعياتُ حقوق الأطفال في النمسا انتبهت إلى ما شهده المسجد، وتساءلت باستهجانٍ عمّ يدفع إلى حثّ الأطفال، في مكانٍ للعبادة، على العنف وحمل السلاح. واستثارت مشاهد المسرحية عن "معركة جناق قلعة"، كما أبرزتها صحفٌ نمساوية، وطيّرت وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو لها إلى العالم كله، استثارت أسئلةً عن الثقافة التي تحتل أفهام المسلمين، وهم يزهون بالحروب والمعارك في مساجدهم، في مغترباتهم في أوروبا، ويعبّئون أخيلة أطفالهم بحب السلاح.
مؤكّدٌ أن خلطا غزيرا في المفاهيم يحدث في الأثناء، وسوء فهم متعجلاً بشأن الإسلام وناسه، وبشأن الدفاع عن النفس والتصدّي للغزاة، وثقافة حماية الأوطان، وما إلى ذلك من مضامين تشتمل عليها مسرحية الأطفال التي تعمّدت وسائل إعلام عربية، تتبع دولا تناهض تركيا، المبالغة بشأنها، من قبيل الزّعم إنها "هزّت النمسا"، غير أن هذا كله، في الخلاصة العامة، لا مكان له في أجواء يشحّ فيها التسامح، ويتغلب فيها التنميط على الحوار ومحاولة الفهم، وتتصدّر فيها الانحيازات المسبقة ونزوعات التربّص. ما يعني أن ما قام به أهل المسرحية المتسرّعة في المسجد كان فعلا في غير محلّه أبدا. وإنْ في البال أنه كان أدعى للحكومة النمساوية التي تحرّض ضد المسجد التركي أن تتعرّف جيدا على مقولة المسرحية التي تذكّر بارتباط تركيا والنمسا، في لحظةٍ تاريخيةٍ سابقة، في تحالفٍ واحد، وأن العثمانيين الأتراك خسروا آلاف الجنود من أجل حماية النمسا.
لم يكن متوقعا أن تبادر هذه الحكومة إلى أمرٍ كهذا، أو أقله أن تدرك أن الجهة المشرفة على المسجد تصرّفت بنفسها فيما يتعلق بما جرى، وعاقبت المسؤول عنه بالإقالة، ذلك أن المستشار كورتس منشغلٌ بإغلاق المساجد وطرد الأئمة، وإرضاء إسرائيل، والسفر إليها للقاء نتنياهو، لإيضاح الحالة الخاصة التي أوجبت وجود حزب الحرية (المعادي للسامية بحسب إسرائيل) في حكومته، وكذلك لزيارة حائط البراق (حائط المبكى في التسمية الإسرائيلية) في القدس المحتلة. هذه أولويات الرجل، وفي الأثناء، يتمنطق أطفالٌ مسلمون في مسجدٍ سيوفا خشبية، ثم يسجّون قتلى، في مشاهد مسرحيةٍ في مسجدٍ تركيٍّ في فيينا.
358705DE-EDC9-4CED-A9C8-050C13BD6EE1
معن البياري
كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965. رئيس قسم الرأي في "العربي الجديد".