الرزاز والمواجهة الصعبة

الرزاز والمواجهة الصعبة

12 يونيو 2018
+ الخط -
حينما انفجرت موجة الاحتجاجات الشعبية الأردنية أخيرًا في العاصمة عمّان والمحافظات، على خلفية مشروعي قانونين، زَجّهما رئيس الوزراء المقال هاني الملقي، للبرلمان، الضريبة والخدمة المدنية، تسارعت الأحداث بشكلٍ لم يكن في وارد أحد، وإن كانت إرهاصاتها قد لاحت في أفق اختناقات المواطن الأردني المعيشية. وفي غياب الأحزاب عن الواجهة، تصدّرت النقابات العمل، ودعت الحكومة إلى الحوار، فلم تستجب، ما جعل النقابات تدعو إلى إضراب عام، أخذته الحكومة باستخفاف، معتقدة أن فرص نجاحه ضئيلة، لكن المفاجأة أنه نجح بشكل منقطع النظير. كانت لحظة الحقيقة التي واجهت الجميع، وهي أن هنالك تغيرا عميقا وجوهريا في وعي المجتمع، وأنه مستعدٌّ للتصدّي لكل قرارٍ يمكن أن يمسّ مصالحه، ومستوى معيشته واستقراره. ازدادت لحظة الذهول عندما خرج المتظاهرون من كل أطياف المجتمع، في سابقةٍ أعادت إلى الأذهان هبّة نيسان/ إبريل في العام 1988، والتي جاءت بعد مصاعب اقتصادية، وانغلاق سياسي شبيه بما يحصل اليوم، فأدت إلى استعادة الحياة الحزبية والسياسية، وأنتجت برلماناً وصف في حينه بأنه الأفضل والأكثر تمثيلاً.

أخذت الحكومة المقالة وأجهزتها جرعة من الثقة الزائدة على وقع ما يحصل في المنطقة من دمار وتفتت للدول، فافترضت أن المجتمع مستعد للإذعان لأي قرار، وإن مَس مستوى دخله ومعيشته، ولم تتزعزع هذه الثقة العمياء إلا حينما وجدت نفسها في مواجهة احتجاجات جماهيرية سلمية غاضبة، كانت تزداد يوماً بعد آخر، وتتّسع دائرة المشاركين فيها، غير أنه ليس لها رأس محدد، ومعظم المشاركين من الشباب الغاضب والباحث عن فرص أفضل للحياة. عُقدت خلية الأزمة، ووضعت الاستراتيجية بعدم قمع الاحتجاجات، طالما أن سقوفها لا تصل إلى مستوى الملك. ولأجل ذلك، كرّست الخطة الأمنية التعامل الودي مع المتظاهرين، ومنع تجمعهم في بؤرة واحدة، وذلك كله مع برنامج لتقديم التنازلات، وفق تطورات الشارع، فبدأت بالتراجع عن رفع أسعار المحروقات.
لم يهدأ الشارع، أقيلت الحكومة، ولكن سقف المطالبات بدأ يرتفع. حينها تسرّب اسم عمر الرزاز مرشحًا لرئاسة حكومة جديدة، لرصد ردود الرأي العام، فبدأت المشاعر الإيجابية تسود، لتجربة الرجل الناجحة في وزارة التربية والتعليم، ونظافة يده ونزاهته. ثم استدعي إلى الديوان، وتم تكليفه شفهياً، ومع التقبل الذي حصل للرجل، صدر كتاب التكليف، والذي تميز بأنه أعطى الرئيس المكلف مساحةً واسعةً للبدء بتشكيل فريقه الوزاري. ولكن، كان أمامه التحدّي الاول والمباشر والأكثر إلحاحاً، كيف يعيد المحتجين إلى منازلهم؟ سارع الرجل بحرفيةٍ عاليةٍ إلى مجلس الأمة، بشقيه النواب والأعيان، وبعد اللقاء مع رئيسي المجلسين، أعلن أنه مستعد للحوار، وأطلق الوعد الذي كان له الأثر الأهم، أنه سوف يسحب مشروع قانون ضريبة الدخل من مجلس النواب، بعد أداء حكومته اليمين أمام الملك. وفي بيت الضيافة، اجتمع مع النقباء ورئيس مجلسهم، الدكتور علي العبوس. وكان اللقاء بمنتهى الشفافية، وساد جو لم يجدوه لدى رئيس الحكومة المقال. خرج الجميع راضين، فتم تعليق الإضراب، واحتفل المحتجون في اليوم نفسه بانتصار الاْردن، وظهور القوة المؤثرة للشارع والقوى المدنية.
ما الذي ينتظر عمر الرزاز، وهل تشفع له نجاحاته السابقة في مواجهة واقع شائك ومعقد؟
تبدأ مصاعب الرجل في اختيار فريقه الوزاري، فأول ما يواجهه في ذلك أن ولايته لن تكون كاملة أبداً في اختيار الوزراء، فهناك التدخلات من أطراف عديدة، وستفرض عليه أسماء ربما لا يرغبها، عابرة للحكومات والرؤساء. وسوف تمنعه المحاصصة المناطقية والإقليمية من أن يكون مطلق اليدين أيضاً، تضاف إليها قوى ضغط لا حصر لها. كما أن حريصين على مصالحهم وأجنداتهم التي ليست للوطن علاقة بها يحاصرونه بنصائحهم وتمنياتهم التي لا حدَّ لها. هذه نقطة البداية، إن نجح فيها سوف يذهب إلى مجلس النواب لنيل الثقة، وهنالك سوف تبدأ المساومات على أساس المصالح الضيقة، لا على أساس الوطن. يبقى الحال بين أخذ ورد إلى أن تتدخل جهة وازنة، تحسم الأمر لصالح الرئيس الذي سينطلق بعدها إلى لحظة الاختبار التي وعده بها الأردنيون حين كتبوا له "كنت تختبر أولادنا، وجاء الوقت كي نختبرك، ونسمح لك بالغش من دول آسيا"، وهذا مؤشر على حجم الأمل الذي وضعوه، وهو أيضاً أعلن قبول الامتحان.
وحين يجلس الرئيس المكلف عمر الرزاز، أمام نفسه، فإنه سيجد أمامه: بطالة 18%، فقر 20%، 38 مليار دولار دين عام، عجز في الميزانية، بيروقراطية ضخمة ومترهلة وغير مبدعة تستنزف معظم الميزانية العامة، فساد يتحرك ويفرض هيمنته قوة خفية على الجميع، واقع تعليمي وصحي متقهقر، غياب شبه تام للثقة من الرأي العام، فالرواية الحكومية دوماً غير مصدقة، ومجتمع على قمة الغضب، مرشح لكل شيء بعد الآن، والرهان على هدوئه وقبوله بما كان سابقاً أصبح بعيداً عن الواقع، فحالة الهيجان ليست وليدة قانون الضريبة، بل هو قمة هرم الجليد، فدونه تراكمات من الإحباطات والإخفاقات، وحالة من الجمود التي أوجدت حالة غضب كامن، لا حدود له، ومرشح لإعادة الكرة في أي لحظة، إذا لم يلمس نتائج على الأرض.
وما يضاعف مصاعب عمر الرزاز أن حل تلك المعضلات ليس كله في الداخل الأردني، بل يتعدّاه إلى الإقليمي والدولي، فالأردن الذي يُحاط بحزام من نار، من الشمال الاًزمة السورية التي أغلقت طريقه البري إلى الساحل السوري، ومن ثم إلى أوروبا وتركيا. وأيضاً ألقت إليه الحرب الدائرة هناك بأعداد كبيرة من اللاجئين، تستنزف موارده، من دون مساعدات حقيقية. من الشرق، الاًزمة العراقية التي قطعت موارد الأردن المهمة عن السوق العراقية. ومن الغرب، الأراضي الفلسطينية المحتلة، وحالة الانغلاق التي فرضها اليمين الإسرائيلي المتطرّف، بقيادة بنيامين نتنياهو، والذي أعاد عملية السلام إلى نقطة الصفر، ما أحدث وضعاً متأزماً على الصعيد الأردني، خصوصاً بما يتعلق بمدينة القدس. وفي الجنوب، حيث المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي، لا يبدو أن الأمور على ما يرام تماما، خصوصاً بعدما اعتبرت السعودية والإمارات أن الأردن اتخذ نصف موقف بشأن حصار دولة قطر ومقاطعتها، وهو موقف كان لاعتبارات داخلية شديدة الحساسية.

أما لو فكّر رئيس الحكومة الأردنية المكلف إطلاق بصره بعيداً، حيث المجتمع الدولي، فهناك رئيس يحاول إعادة هيكلة العلاقات الأميركية مع العالم، وفق اعتبار وحيد ومتطرّف (أميركا أولاً)، ما سيلقي بظلاله القاتمة على العالم، خصوصا منطقة الشرق الأوسط، وفي المقدمة منها القضية الفلسطينية. فقد تحالف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مع نتنياهو، ونقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس المحتلة، ما أضعف جوهرياً الولاية الهاشمية على الأماكن المقدسة في القدس، الأمر الذي ولّد غضباً شعبياً داخل الاْردن، انعكس في عدم رضى عام، يضاف إلى ذلك الحديث والتسريبات عما تسمى صفقة القرن لحل القضية الفلسطينية، على حساب الفلسطينيين، وغياب ذكر دور أردني واضح في تفاصيلها، بحيث اعتبر شريكاً على الورق فقط.
تُضاف إلى ما سبق الشروط القاسية لصندوق النقد الدولي لإعادة هيكلة الاقتصاد الأردني، بحيث يُطلب تقليص الإنفاق الحكومي على الخدمات العامة، من صحة ودعمٍ للسلع، وكذلك إعادة هيكلة النظام الضريبي لصالح زيادة الاعتماد على الضرائب، الأمر الذي يتطلب توسيع شريحة المكلفين، وهو الأمر الذي دفع القوى المجتمعية إلى رفضه، وأطلق موجة عارمة من الاحتجاجات، وسيشكل طرحه مرة أخرى مغامرةً بالغة الخطورة، تهدد كينونة الدولة برمتها.
إذاً، هو حبل صغير متعرّج بالغ الخطورة، هو خط سير الرئيس المكلف، فكيف له أن يعبره؟ على الرغم من مهارته وكاريزماه، لا تغيب عن البال جملة عجوز أردنية "إنه عمر الرزاز وليس عمر بن الخطاب"، تعبيراً عن وضع قيود للآمال المعقودة على الرجل.
يرى كثيرون أن النجاح لن يحالف الرزاز ما لم يتلق مساعدة مزدوجة، داخلياً بإعطائه فسحة كافية من الوقت، وكذلك تمكينه من الولاية الحقيقية على أدوات الحكم، والسماح له بالقيام بورشة إصلاح داخلية اقتصادية وسياسية. وخارجياً، لن ينقذ الاْردن سوى مشروع شبيه بمشروع مارشال، ولكن بصيغة عربية، لأن عدم إصلاح الوضع الاقتصادي في الاْردن سيبقي الوضع مرشحا للانفجار في أي لحظة، الأمر الذي سيجعل المنطقة تتدحرج كأحجار الدومينو، ما يعني موجةً جديدةً من الفوضى والعنف والخراب، بحيث ستكون مثل حفرة الانهدام، إذا ما انزلقت إلى الأسفل قليلاً، ستجر المنطقة إلى زلزالٍ بلا حدود.
.. أمام هذا الوضع تبقى خيارات رئيس الحكومة الأردنية المكلف، عمر الرزاز، في غاية الدقة والصعوبة.