باتجاه الدوار الرابع

باتجاه الدوار الرابع

11 يونيو 2018
+ الخط -
حاولت التغلب على مشاعر التردد التي أصابتني، قبل أن أحسم الأمر بضرورة التوجه إلى منطقة الدوار الرابع أمام مقر رئاسة الوزراء في العاصمة الأردنية عمّان، حيث اعتاد آلاف الأردنيين، من مختلف الفئات، الوقوف قبالته، بين حين وآخر، معبّرين عن مواقفهم إزاء قضايا عامة. وكذلك يلجأ إلى البقعة ذاتها أصحاب مظالم من معلمين وعمال وطلاب ومتقاعدين، بغية الاحتجاج، عبر رفع يافطات وإطلاق هتافات (غير مسموعة في معظم الأحيان)، تعبّر عن مطالبهم العادلة. ويحاول العمّانيون تفادي المرور في تلك المنطقة، لكثافة حركة السير التي تعرقلها تجمعاتٌ كهذه، غير أن الصمت، وكذا النأي بالذات، والاكتفاء بالفرجة، صار نوعا من التخلي، كي لا نقول خيانة الحلم المشروع بغد أقل قسوة.
كان مبعث التردد لأمثالي تراكم موروث عتيق راسخ من خيبة الأمل، وانعدام اليقين، يعاني منه جيل تربى واكتسب أسباب الوعي والمعرفة، في ظل الهزائم الكبرى المتلاحقة، وقد جعلت منه نموذجا مؤسفا غير مؤهل للأمل، متردّدا متشكّكا في إمكانية إحداث أي تغيير حقيقي، جيل منهك سئم تكرار الوجوه التقليدية من ذوي الصوت المرتفع الذين امتهنوا ركوب الموجة، والاستيلاء على الأضواء واستثمارها بما يعود عليهم بالمنافع الشخصية من شهرة ونجومية ومقاعد نيابية أوصلتهم إليها منظومة الفساد، يزعمون أمام الكاميرات مقاومة وتصديا لها. وضاق هذا الجيل من واقع القوى السياسية المتنافرة، حيث كلٌّ يغني على ليلاه، ويحاول فرض شعاراته باعتبارها حلا وحيدا وحصريا.
وعلى الرغم من تلك المقدّمات المثبطة للعزيمة، ويقيناً بضرورة وجود الكاتب، من باب التصالح مع الذات، في أقرب نقطة ممكنة من الحدث، حزمت الأمر باتجاه الدوار الرابع في جبل عمّان. والحق أن المشهد كان مفاجئا ومفرحا، ودافعا إلى استعادة اليقين بقدرة الشارع المتناغم، المتجاوز خلافاته، الخلاق المبدع، على دفع السلطات إلى ضبط إيقاعها، وإعادة دوزنته، بما لا يشذ عن توق الشعوب إلى الحرية والعدالة. عشرات الآلاف من الشباب والصبايا يهتفون بصوتٍ واحدٍ، عالٍ هادر عميق، رفضا لسياسات إفقار وتجويع ومحسوبيات وبلطجة وظلم وانعدام فرص وفساد استشرى وتفشّى. تنظيم عالي المستوى، اضطلع به هؤلاء الشبان الذين يُنظر إليهم، في العادة، بعين الشك والريبة بمستوى وعيهم وعزمهم وتصميمهم على التعبير الحر الشجاع النبيل، بأسلوب بالغ الرقي، حضرت فيه الموسيقى، والكلمة الحلوة، والسلوكيات الحضارية، والشعارات المنطقية القابلة للتحقق.
طالبوا، في البداية، بسحب مشروع قانون ضريبة الدخل سيئ الذكر، ضمن إضراب ناجح مؤثر، تم بتنظيم من مجلس النقابات المهنية. وقد توافق المتظاهرون على إعطاء الحكومة السابقة مهلةً، لكي تعيد النظر في هذا القانون الجائر، غير أن تلك الحكومة العبقرية أقدمت، في اليوم التالي، وبنيةٍ استفزازيةٍ جلية، على رفع أسعار المحروقات. ولوح وزير المالية المخلوع مهدّدا بحرمان الناس من رواتبهم لشهر يونيو/ حزيران الجاري، عقوبةً على تمرّدهم، ما أجّج حالة الرفض، وارتفع السقف فورا إلى الشعب يريد إسقاط الحكومة، وتضاعف عدد المتظاهرين في محيط الدوار الرابع، حيث انطلقت الشرارة، واتسعت حتى شملت دواوير البلاد وميادينها وساحاتها، من شمالها إلى جنوبها، ضمن انضباط ورُقيّ ووعي كبير، أبداه أطراف المعادلة من شعب وقوى أمنية تصرفت بمنتهى المسؤولية والحضارية. وعبّرت القيادة الأردنية عن حكمة واقتدار، حين سارعت إلى احتواء غضب الجماهير الساخطة، فأسقطت حكومة الجباية والمحاسيب، كما أعلنت عن سحب مشروع القانون المقدّم إلى مجلس النواب.
عاد الجميع إلى بيوتهم راضين، طامحين، بعد أسبوع عاصف شهد تحولا جذريا في آلية الحوار بين السلطة والشعب، حيث أخذت شكلا ندّيا، أعاد الاعتبار إلى المواطن الذي أحسّ بمشاعر الاعتزاز والثقة بالنفس. ما زلنا في بداية طريق صعب، شائك، محفوف بالمخاطر والمطبات، غير أن الأمل أصبح ممكنا وحاضرا ومحرّكا وحقيقيا، لكي نخرج من هذا النفق المظلم القاتم، غير الواضحة معالمه حتى الساعة.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.