عن "شالوم" والتطبيع في تونس

عن "شالوم" والتطبيع في تونس

02 يونيو 2018
+ الخط -
ليس التطبيع مع إسرائيل أمرا غريبا في تونس، ولا في غيرها من الدول العربيّة، فثمّة مواقفُ معلنة لسياسيّين وفنّانين وأكاديميّين تعترف بإسرائيل، وتدافع عن حقّها في الوجود، وتدعو إلى معاملتها باعتبارها واقعا قائما وجارا قويّا، بل دولةً مسالمةً ليس بينها وبين العرب عداوة. وثمّة مع هذه المواقف، أخبارٌ لا تنقطع عن علاقات سريّة أمنيّةٍ وتجاريّة وسياسيّة بين إسرائيل والأنظمة العربيّة، وتسمّى هذه الأخبار "تسريباتٍ" لرفع الحرج عن المطبّعين إلى أن تألف الشعوب تطبيعهم.
وقد جرى جدل طويل في مجلس النوّاب التونسيّ، لسنّ قانون يجرّم التطبيع، ولم تتّفق عليه الكتل النيابيّة، فلم ير القانونُ النور. وظلّ الجدل يتجدّد كلّما حدث في البلاد، ما يعتبره الناس تطبيعا مع الكيان الإسرائيليّ بموقف سياسيّ أو برنامج تلفزيّ أو زيارة فنّيّة أو مشاركة أكاديميّة أو غير ذلك. وآخر ما أثار الاختلاف وأحيا الجدلَ برنامجُ الكاميرا الخفيّة "شالوم".
وقد أصبح بمنزلة اليقين عند التونسيين بعد الثورة أنّ كلّ من أيّدها، ودافع عنها، معارضٌ للتطبيع، ثابتٌ على دعم الشعب الفلسطينيّ، وأمّا من عارض الثورة وعاداها وانقلب عليها فربّما كان مدافعا عن التطبيع، أو معترفا بالكيان الصهيونيّ نوعا من الاعتراف. وعمل برنامج الكاميرا الخفيّة على خلخلة هذا الاعتقاد بتقديم ضدّه، فصوّرَ أحدَ أشرسِ المعارضين للاستبداد، البارزين في الثورة، المدافعين عن القضيّة الفلسطينيّة، مستعدّا للتعامل مع الإسرائيليّين، متنكّرا لمواقفه القديمة ولواحدةٍ من عقائد الثورة التونسيّة، وأظهره للمُشاهد ضعيفَ الموقفـ فاترَ التصميم على رفض التطبيع، وجعله دون شخصيّاتٍ من النظام القديم، وشخصيّاتٍ لا تاريخ لها في مقاومة الاستبداد.
ومارس البرنامج، في جميع حلقاته، سياسة الإشهار في التسلّل إلى النفوس. وبدا أنّه يستدرجُ المُشاهد إلى أن يصبح ذكر إسرائيل عنده أمرا عاديّا، يجري على لسانه، من غير أن يثير قلقا نفسيّا أو موقفا سياسيّا أو تاريخا من الاحتلال والقتل، ويُقِرُّ في وعي الناس اعتبارَها دولة 
أجنبيّة عاديّة، ويمحو من الذاكرة والوجدان معارضتها ومقاومتها، ورفْضَ الاعتراف بها. ومن أبرز العلامات على هذه الغاية نجمةُ داود وحروفٌ عبريّة وعلَمُ إسرائيل مرفرفا في بداية كلّ حلقة. ونتيجة هذه الخطّة أن تشترك الصورةُ والخطابُ ومواقفُ بعض الضيوف في تحقيق تطبيع الحواسّ، وإعادة تمثّل الناس لإسرائيل، فتساهم في تربية المشاهد على التطبيع، وإن هو رفضه بلسانه، واستنكر بثّ البرنامج. وينقل التكرارُ اليوميُّ المُشاهدَ من تطبيع الحواسّ إلى تحقيق الألفة بينه وبين دولة الاحتلال، فلا يبقى في وعيه من تاريخها الصهيونيّ وسياستها الاستيطانيّة وممارستها القتل شيء، وتغدو دولةً عاديّةً، قد تصل علاقة العربيّ بها إلى العمالة. ويثبّتُ في الوعي أنّ تونس (رمزَ الثورات العربيّة) دولةٌ عاديّة أيضا، فيها العملاء والأشخاص المستعدّون للعمالة وخدمة الكيان الإسرائيليّ.
وقد أثار هذا البرنامج الجدل والخصام بين الآراء المتباينة في تقييمه، فمن الناس من استغرب أن يُبَثّ في شهر تحتفل فيه إسرائيل بذكرى تأسيسها، وتقتلُ عشرات الفلسطينيّين في مسيرات العودة. ومن الناس من اعتبره تطبيعا صريحا، ودعوة معلنة إلى الاعتراف بالكيان الإسرائيليّ. وجدّد هؤلاء المطالبة بسنّ قانون تجريم التطبيع ليردعَ المطبّعين، ويمكّنَ من محاكمة من يخالفه منهم. وأكثر ما ملأ الصحفَ ومواقعَ التواصل في هذا الشأن جُفَاءٌ من زَبَد الخصومات السياسيّة والمعارك الإيديولوجيّة، وليس له تأثيرٌ في تغيير سلوك الناس، ولا ضغْطٌ على المطبّعين، فهؤلاء لم يزدادوا، بعد بثّ البرنامج، إلّا جرأة على الجهر بآرائهم، ولم ينقطع 
جمهور الكاميرا الخفيّة عن المشاهدة، وإن هو لعن التطبيع وأهله. وأمّا الدعوة إلى سنّ قانون تجريم التطبيع لتسهل محاكمة المطبّعين، فليست سياسة دقيقة لمواجهة التطبيع، وإنّما هي اشتغالٌ بالكلام والخصومة الإيديولوجيّة في مقامٍ يجب فيه العمل المنظَّم، وراسبٌ من رواسب ثقافة الاستبداد. وهذا لا يعني الامتناع عن محاصرة التطبيع ومقاومته، بل ينبّه إلى منهج عملٍ يجتمع عليه الناس من غير تفكير في الخصومة والمناكفة، فالمطلوب تجديدُ وعي الشعوب بالقضيّة الفلسطينيّة، وتوسيعُ سياسة المقاطعة، فتجديد الوعي جهد نظريّ وعمل ميدانيّ، حتّى لا تحجب المشاغل اليوميّة واستراتيجيّاتُ التطبيع القضيّةَ الفلسطينيّة؛ والمقاطعةُ ممارسةٌ يوميّة مستمرّة متطوّرة، لإبطال كلّ ما فيه نفعٌ في بلداننا للكيان الصهيونيّ. فلا يشتري الناسُ الغلال التي تباع في أسواقنا، ويقال إنّها مستوردة من دولة الاحتلال، ويقاطع المشاهدُ القنوات التي تبثّ برامج تطبيعيّة، ويقاطع الجمهور الفنّيّ، فنّاني التطبيع، ويقاطع المتعلّم والمثقّف، الأكاديميّين المطبّعين، ويضغط المجتمعُ المدنيّ والشعبُ الحيّ لعزل المسؤولين المطبّعين. وتعْقد هذه الحركة الواعية الهادئة علاقات بمثيلاتها في دول العالم. ففي أميركا وأوروبا اليوم محاولاتٌ قويّةٌ لمقاطعة المنتوجات الإسرائيليّة، ولا سيّما المصدّرة من المستوطنات، ومحاولات للمقاطعة الأكاديميّة والفنّيّة. وأمّا سنّ قانون لتجريم التطبيع فسيمكّن فريقا من الناس من مصادرة الحرّيّات وممارسة القهر، وربّما فتَحَ على البلد باب المحاكمات الإيديولوجيّة. ولا يُستغرب، حينئذٍ، أن يَنْجُم من يطالب بمعاقبة المتشيّعين المتأيرنين والحداثيّين المتفرنسين وكلِّ من جهر بدفاعه عن سياسة دولة أجنبيّة. ولكلّ هؤلاء أصوات عالية، تدافع عن سياسة الدولِ التي يوالونها، والاتّجاهاتِ التي يعتنقونها، والمذاهبِ التي يدينون بها، وتكون آراؤهم ومواقفهم معارضةً أحيانا سياسة الدولة ووجدان الناس.
A614EF74-C1F1-4E15-90EC-0B94242176DA
عبدالله جنوف

أستاذ بالجامعة التونسيّة. متخصّص في الإسلاميّات.