تونس.. الطربوش والانتخابات والتفاوض

تونس.. الطربوش والانتخابات والتفاوض

08 مايو 2018
+ الخط -
على الرغم من محاولات بعضهم في تونس تأجيل الانتخابات البلدية إلى ما لا نهاية، إلا أنها تمت وأفصحت عن خفاياها، وذلك يوم الأحد 6 مايو/ أيار الجاري. ويعتبر ذلك، في حد ذاته، إنجازاً تاريخياً في تونس، غير أنه، في المقابل، عكس حالة عزوف واسعة، حيث وجّه المواطنون رسالة مضمونة الوصول إلى النخب الحزبية، وأعلموها، عبر الأرقام، أن ثقتهم فيها تعمقت خلال السنوات السبع التي أعقبت الثورة على بن علي. وبناء عليه، أصبحت الأحزاب، سواء الحاكمة منها أو المعارضة، مدعوة إلى مراجعة سياساتها واستراتيجياتها، حتى لا تتعمق أكثر المسافة الفاصلة بين عموم الناس والطبقة السياسية.
حدثت تجاوزاتٌ رصدتها الهيئة المستقلة للانتخابات ووثقتها، إلا أن ذلك لم يرتق إلى مستوى الجرائم الانتخابية التي تؤدي إلى الطعن في مصداقية الاقتراع وسحب الثقة من العملية الانتخابية، والانتهاء بالتشكيك في نتائجها. لم يحصل تزوير، ولم يحدث عنفٌ واسع النطاق كما يجري في بعض الدول الإفريقية وغيرها. تم الاشتباك بالأيدي بين بعض المرشحين، وهناك من حاول رشوة بعض الناخبين أو المراقبين، لكن ذلك يتجاوز النطاق الضيق، ما جعله بمثابة الاستثناء الذي لا يلغي القاعدة. وهو ما أكدت البيانات التي أصدرتها البعثات الأجنبية، إضافة إلى شهادات الهيئات المحلية التي رصدت العملية الانتخابية بدقةٍ وحرفية.
استعادت حركة النهضة موقعها المتقدم، عندما تصدّرت المشهد الحزبي، وحصدت عدداً واسعاً من المقاعد البلدية. وبذلك زادت من إزعاج خصومها الذين حاولوا، بكل ثقلهم، الدفع بها نحو العزلة والانكماش. وفي مقابل ذلك، تقلصت قاعدتها الانتخابية بشكل لافت، والتي بلغت خلال انتخابات المجلس التأسيسي مليوناً وخمسمائة ألف صوت.
كما لم يتعرّض حزب نداء تونس إلى الزلزال الذي تنبأ به خصوم هذا الحزب، وذكروا أن النتائج الكارثية التي سيحصل عليها ستفضحه وستزيله من الخارطة الحزبية، غير أن هذه التوقعات التي ذكرها جازمين كثيرون ممن انشقوا عن "نداء تونس" خلال الأشهر الأخيرة، بينت الانتخابات البلدية أن هذا الحزب ليس عقائدياً، ولا هو حزب برامجي، إنما هو حزب انتخابي يستفيد منه الطامحون إلى الحكم، والراغبون في إحداث التوازن مع حركة النهضة التي لا تزال تتمتع بحضور شعبي لا يستهان به.
كما تتوفر للمعارضة اليسارية وغيرها فرصة لمحاولة استقطاب الأغلبية الصامتة التي ابتعدت عن الأحزاب، وفضلت البقاء في أماكن الظل والعزوف والانسحاب من الشأن العام. لكن "الجبهة الشعبية" وغيرها تحتاج إلى أن تقدم على القيام بمراجعاتٍ جذريةٍ في خطابها السياسي ووسائل عملها وطرق التواصل مع المواطنين، فمستقبل اليسار التونسي مرتبط بمدى قدرته على حسن الاستفادة من أخطاء الأحزاب الحاكمة، وتحويلها إلى نقاط قوة لصالحه. وهو أمر ليس هيناً ولا يسيراً.
استمرار هيمنة الحزبين على الدولة، وعلى المشهد السياسي، يعتبر من بين ما كشفته عنه الانتخابات البلدية، وهو ما يجعل الأخيرة وثيقة الصلة بالانتخابات البرلمانية والرئاسية لسنة 2019، فموازين القوى السائدة حالياً، والتي أكدتها هذه الانتخابات، مرشحة لكي تستمر وتشمل المحطات المقبلة، والتي ستزداد قوةً بسبب اضطرار "النهضة" و"نداء تونس" لاستمرار دعم التوافق الذي يجمع بينهما منذ سنة 2014، والذي لا تزال تحاول معظم الأحزاب إطاحته من أجل عزل "النهضة" وإخراجها من الحكم.
يمكن القول إن الحكم المحلي قد بدأ في تونس، وهو نمط من التنظيم السياسي والاجتماعي قد بدأ فعلاً وبشكل ملموس، فالمجالس البلدية تتمتع بفضل القانون الجديد بصلاحيات مهمة وغير مسبوقة، من شأنها أن تجعل من الجهات شريكاً فعلياً في رسم السياسات، واستغلال الثروات وتنظيم المجتمع بكيفيةٍ قد تُلغَى فيها الفوارق، خصوصاً في ظل الأوضاع الصعبة الراهنة. لقد دخلت تونس فعلاً مرحلة الجمع بين المتناقضات، بهدف القضاء على الوحدة الوطنية في مقابل استمرار الآخرين.