فضفضة المدنية وإكراهات الإسلاميين

فضفضة المدنية وإكراهات الإسلاميين

07 مايو 2018

احتجاج في ميدان التحرير ببغداد ضد الفساد (18/9/2015/فرانس برس)

+ الخط -
"عيش - حرية - دولة مدنية"، انتقل هذا الشعار من ميدان التحرير في القاهرة 2011 إلى ميدان التحرير في بغداد 2015. في العراق تغيّر الـ "عيش" إلى "خبز". وهناك فرق أهم، هو معنى "الدولة المدنية"، ففي حين قُصد بها في وادي النيل إنهاء حكم العسكر، عني بها في ما بين النهرين الدولة غير الدينية.
راج الحديث عن المدنية في العراق منذ انتخابات 2014. وقتئذٍ، تشكل "التيار المدني الديمقراطي" من الحزب الشيوعي وبعض القوى الصغيرة والشخصيات غير الدينية. واتسعت الظاهرة بعد تظاهرات يوليو/تموز 2015 التي استندت، في أحد عواملها، على معارضة الأحزاب الإسلامية. وإثر التظاهرات، وُلد جدل واسع حول مفردة "مدني" في الحياة السياسية العراقية. منطلقاته تعود إلى مجموعة من الأسئلة طرحت في الأوساط "غير الإسلامية". منها أسئلة عن التطابق والاختلاف بين المدنية والعلمانية، وأسباب استخدامه وعدم استخدام العلمانية، وكفايته وعدم كفايته للدلالة على دعوات فصل الدين. بشكل عام، رسمت علامات استفهام بشأن معنى المفردة ومدى دلالاتها السياسية التي تبدو مبهمة بشكل عام.
بدا إبهام المعنى المطب الذي مكّن توظيف المصطلح باتجاهاتٍ غير ما أرادها أصحابه. 
خصوصا وأن بعض قوى الإسلام السياسي وصفت نفسها بذلك. فـ"مدني" في العراق غير مرتبطة بمواجهة المؤسسة العسكرية ورفض هيمنتها، على الرغم من أن السلاح لازم الحياة السياسية والاجتماعية منذ عهد غير قريب. هي متعلقة بمشكلة العلاقة مع الإسلام السياسي بنسخه الثلاث، الشيعية والسنية والسلفية الجهادية. وإذا كانت الأزمة مع الجهاد السلفي أنهت الحياة الآمنة لكل العراقيين، بفعل وجود تنظيم القاعدة ثم دولة العراق الإسلامية، وأخيراً تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، فإن أزمة الإٍسلام السياسي الشيعي بدرجة رئيسية، والسني بدرجة أقل، هي أزمة علاقة مع الحكم. ولأن العلمانية ارتبطت في المخيال الشعبي العراقي بالإلحاد من جهة، وبالنظم القمعية السابقة من جهة أخرى، فإنها تعرّضت لدعاية إعلامية مضادة لم تسمح لها بأن تأخذ فرصاً تذكر. الشارع الانتخابي ينظر للعلمانية بعين الريبة.
هنا أذكر، وتحديداً خلال فترة كتابة دستور العراق الدائم سنة 2005، أن الشيخ جلال الدين الصغير، وهو القيادي الذي يوصف بأنه الأكثر تطرفاً بين قيادات المجلس الأعلى الإسلامي، نصح، في حديث خاص، بعض زملائه من الإسلاميين السنة في لجنة كتابة الدستور، بضرورة أن يواجه الإسلاميون السنة بمواجهة العلمانية، مذكّراً إياهم بنجاح الأحزاب الإسلامية الشيعية في خنق العلمانية. وما كان ليقول ذلك، لولا نجاحه وأمثاله في الترويج المضاد ضد أصل الفكرة.
لذا من غير الصحيح أن نقول إن عوامل نشوء مفردة "مدنية" تعود إلى ما يعرف بالربيع العربي. توجد خلفيات ذات صلة بالتاريخ الحديث للعراق، فتاريخ العلمانية في البلاد ينطوي على ذاكرة ظلم وترويع منذ قيام الجمهورية، وصعود العسكر، وتمكّن الأحزاب الشمولية والدكتاتوريات من إدارة شؤونه. ويقال، في معرض الجدل حول الموضوع، إن العلمانيين أذكياء حين استبدلوا مفردة علماني بمدني. لكن الأدق أنهم بدوا أكثر ضعفاً وتهافتاً. مفردة "مدني" مهمة، لكنها غير مكتملة، والعراقيون عجزوا حتى الآن عن تقديم مقاربات معرفية كافية حولها. وهناك عجز حتى على مستوى إيجاد صلة بين اللحظة الراهنة ورؤى جون لوك في رسالتيه عن التسامح والحكم المدني التي تعد أساساً في تعريف السلطة المدنية.
وبعيداً عن النقاش الفلسفي المفقود أصلاً في العراق، بل وفي عموم المشرق العربي، فإن المصطلح ما يزال مبهماً في أدبيات الحياة السياسية العراقية نفسها. الجدل الآن دار حول الجماعات السياسية التي حملت هذا الاسم، وليس حول الاسم نفسه. وحين نسأل المشتغلين المختصين بالعلوم السياسية عن معناه لا يمتلكون جواباً كافياً. والآن، حين تقال المفردة، تذهب أذهان كثيرين إلى المجموعة التي تظاهرت في 2015، أو المجموعة التي تحالفت مع مقتدى الصدر في الانتخابات. بمعنى آخر، الجماعات السياسية التي خاضت تحالفات ذات أهداف سياسية، وليست فكرية، باتت هي المعنية بالموضوع. لا وجود لمعنى مفاهيمي واضح ومعتمد، يمكن أن يكون قاموساً للتمييز بين ما هو مدني وغيره.
أيضاً أصبح المصطلح من كثرة استخدامه انتخابياً لا يلفت انتباه الناخب، بعد أن كان في 
تظاهرات 2015 جاذباً. والقوة التي حصل عليها في معركة الاحتجاجات لمواجهة فساد الحاكمين، تراجعت كثيراً لصالح السياسة والمصالح الفئوية، وهذه إحدى مشكلات الواقع العراقي، فمفاهيم وإشكاليات كثيرة، بمجرد طرحها، يتم تلقّفها في الحياة السياسية، قبل أن تحظى بما يكفي من مراجعات وتوضيحات. ودائما ما ينتج عن ذلك تفريغٌ للمصطلح من قيمته قبل أن يتخذ شكله المطلوب في ثقافة الأفراد. الناس يسمعون الآن بمفردة مدني، وصار لديهم أكثر من قائمة توصف بهذه الصفة أو تحمل هذا الاسم، لكنهم لا يعرفون معناها. وكما سلف، فالمشتغل بالمعرفة السياسية نفسه، لا يمتلك تعريفاً، فضلا عن الناخبين.
ربما يستفاد من هذه الفضفضة الانتخابية والسياسية، لكونها ابتعدت قليلا عن مصطلح "علماني" الذي واجه أزمات كبيرة، بفعل سياسات النظم السابقة، وبفعل تشويه أجندات تسعى إلى إثبات أسلمة الانتخابات والمجتمع والدولة سياسياً. ما يعطيه الفرصة مستقبلاً ليعود بعد أن يصل واقع الحاكمين إلى لحظة انسداد لا تشفع لها حتى آلة التكفير الإعلامية المستخدمة اليوم ضد "العلمانية".
وأياً كان حصاد "المدنيين" في انتخاباتٍ توصف بأنها الأكثر شرذمةً في العراق، لا وجود لفرص كبيرة يمكن التعويل عليها في إصلاح المنظومة، بعد أن أخفقت التظاهرات الأقوى في مرحلة ما بعد صدام حسين، بإيجاد قاعدة شعبية تعيد إنتاج "الخريطة السياسية" بما ينسجم مع وطنية الدولة، وليس وفق مبدأ التشيّع السياسي، بمشاركة التسنن السياسي والتكرّد السياسي.
عمار السواد
عمار السواد
عمار السواد
إعلامي وكاتب عراقي، يعمل في التلفزيون العربي، ويقيم في لندن
عمار السواد