النكبة والمجلس الوطني واليرموك والقاع الفلسطيني

النكبة والمجلس الوطني واليرموك والقاع الفلسطيني

06 مايو 2018
+ الخط -
تصادف حدثان فلسطينيان مع اقتراب الذكرى السبعين للنكبة الفلسطينية، يصلحان مؤشرا على حالة الانهيار الفلسطيني غير المسبوقة. الأول، في دمشق، هو اقتلاع من تبقى من فلسطينيين مقيمين في مخيم اليرموك، وترحيلهم إلى مدينة إدلب بعد ستة أعوام من الحصار القاسي. الثاني في رام الله، وهو عقد المجلس الوطني الفلسطيني بعد غياب أكثر من عقدين على آخر اجتماع له.
لم يشر الرئيس الفلسطيني في خطابه الطويل إلى معاناة الفلسطينيين في اليرموك، لا من بعيد ولا من قريب، وكأن المأساة في اليرموك لا تحدث لفلسطينيين يُفترض أن منظمة التحرير التي عقد اجتماع مجلسها الوطني، متزامنا مع ترحيلهم، تمثلهم وهم التجمع الفلسطيني الأكبر خارج الأراضي الفلسطينية.
وإذا تركنا الإشارة إلى مأساة الفلسطينيين في سورية، ما الإجابات التي قدمها هذا الاجتماع لواقع الفلسطينيين المأساوي في الضفة الغربية وقطاع غزة؟ .. لم يقدم شيئا، ولم تكن لهذا المجلس أية وظيفة، سوى تجديد شرعية الرئيس عباس من مؤسسات متهالكة. وحتى هذه الشرعية تم تكريسها بأسوأ طريقةٍ ممكنة، عبرت عن رثاثة الوضع الفلسطيني ورثاثة نخبته السياسية، فإجراء التصويت على رئاسة عباس، وعلى انتخاب أعضاء اللجنة التنفيذية بالتصفيق، هو إجراء بالغ السخافة، ومؤشر على مؤسسات مدمرة، لا تحترم نفسها. إنه المؤشر على القاع الفلسطيني الذي وصلنا إليه.
يقول الوضع الفلسطيني إننا اليوم أمام نكبة ثانية، وهذه المرة ليس بفعل عدو استيطاني اقتلاعي كالمرة الأولى. هذه المرة بأيدٍ فلسطينية، فمفاعيل التدمير الداخلي الفلسطيني تفوق حتى تأثيرات الأعداء. وإذا كانت النكبة الأولى قد استطاعت ابتلاع الأرض الفلسطينية، وتأسيس دولة 
إسرائيل على أنقاض فلسطين، إلا أنها لم تستطع أن تبدد الشعب الفلسطيني في عملية الاقتلاع التي خضع لها. وإذا كان صحيحا أنها استطاعت طرد الشعب الفلسطيني، فإنها لم تستطيع إخفاءه عن الخريطة السياسية، وأعتقد أن النكبة كانت عاملا حاسما ومكونا للهوية الوطنية الفلسطينية الحديثة، فقد أدمج الفلسطينيون النكبة في هويتهم، وهي الهوية التي كانت المنافي والمخيمات جزءا رئيسيا من بنيتها الحديثة. وفي هذا السياق، يمكن فهم تمسّك الفلسطينيين بمخيماتهم البائسة عنوانا لوطن مفقود، أو مكانا مؤقتا للوصول إلى الوطن الحلم. ليس المشروع الوطني الفلسطيني عرضةً للتبديد اليوم على يد القيادة الفلسطينية فحسب، بل الهوية الوطنية الفلسطينية أيضا، فالقيادة الفلسطينية تعتبر نفسها غير معنية بالمخيمات الفلسطينية في الخارج، وبالتالي غير معنية بالفلسطينيين هناك. في الوقت الذي جرى فيه فعليا تحطيم التجمعات والمخيمات الفلسطينية خارج فلسطين على مدى العقود الثلاثة الماضية، واليوم مأساة اليرموك هي استمرار لمآسي الفلسطينيين، شاهدناها في لبنان والعراق والكويت.
ماذا عن القضايا الأخرى التي يعاني منها الوضع الفلسطيني، ماذا عن المستقبل؟ لا شيء، خطاب مكرور، لا معنى له، سنبقى في المكان نفسه، ونمارس السياسات نفسها، ونتوقع نجاح سياسات فاشلة. ماذا عن المشروع الوطني الفلسطيني، وماذا عن تبدد الهوية الوطنية الفلسطينية؟ لا شيء. الظرف صعب، واستطعنا تجاوز الصعوبات. ماذا عن الانقسام، وماذا عن الوحدة الوطنية؟ لا شيء. المجلس الوطني هو المؤسسة الوطنية الأهم، وقد استطعنا عقد اجتماع "ناجح" له.
لا يختلف ما جرى في اجتماع المجلس الوطني عما جرى ويجري في أي بلد عربي يحكمه طاغية، مع مفارقة أن البلدان العربية التي حكمها طغاة، حكمتها عقلية الطاغية بعد حصول البلاد على استقلالها الوطني. وبالتالي، كانت واحدة من عوارض الاستقلال الوطني في المنطقة، حيث تجلت في أسوأ أشكاله. لكن الوضع الفلسطيني الذي يشبه أوضاع بلدان الطغاة يأتي قبل إنجاز الاستقلال الوطني، فالاحتلال هو الذي يحكم المناطق الفلسطينية، والوضع الفلسطيني ما زال مناطق حكم ذاتي في ظل احتلال إسرائيلي، لم تتغير الصيغة القانونية لوضع السلطة، على الرغم من الدمار الكامل لكل اتفاقات أوسلو مع الإسرائيليين. كما أن الوضع الفلسطيني يعاني من انقسام حاد، ومن مخاطر داهمة، لم تعد تهدّد أراضيَ فلسطينية فحسب، بل تهدد فعليا الوجود الفلسطيني الكلي. في ظل هذه الأوضاع، تُمارس فلسطينياً "سياسات النعامة" التي تدفن رأسها في الرمل، ولا تريد أن ترى أي شيء، في وقت تدّعي أنها تواجه كل المخاطر.
أي شرعية يملكها هذا المجلس الذي يقرّر الوضع الفلسطيني؟! وهو المجلس الذي عفا على 
أعضائه الزمن بمعيار السن، وهو المجلس الذي تختاره القيادة الفلسطينية، لينتخبها ويجدد شرعيتها. حتى في أسوأ الديكتاتوريات العربية، لم تكن هذه السلطات تختار من ينتخبها، كان هناك صندوق اقتراع، صحيح أنه مزور، لكن هناك حفاظ على حد أدنى من الشكليات. لذلك يمكن اعتبار ما جرى في اجتماع المجلس الوطني من انتخاب بالتصفيق، ليس إهانة للنخبة الفلسطينية فحسب، بل إهانة لكل فلسطيني في كل مكان، وإهانة للقضية الفلسطينية التي كانت خلال العقود السبعة المنصرمة عنوانا للظلم وللمطالبة بالعدالة، فلا يمكن امتهان التمثيل السياسي إلى هذه الدرجة، واعتبار ذلك إرادة الشعب الفلسطيني، أقل ما يقال في هذا إننا نقف أمام مهزلة بكل معنى الكلمة؟!
لقد تم إنجاز دولة إسرائيل، لأن الحركة الصهيونية كانت تملك مشروعا في فلسطين، مشروعا استعماريا استيطانيا اقتلاعيا، وكان هذا المشروع البوصلة التي حكمت القوى السياسية التي سعت إلى تكريس هذا المشروع في واقع فلسطين. ولا يمكن مواجهة هذا المشروع سوى بامتلاك مشروع وطني تحريري ديمقراطي، ينتمي إلى الحرية والعدالة. ولا يمكن النجاح في مواجهة هذا المشروع من دون امتلاك مشروع وطني يرسم معالم المستقبل الفلسطيني، وحتى المستقبل الإسرائيلي، فقد بات إنقاذ إسرائيل من عنصريتها مهمة فلسطينية، ولكن هذه المهمة لا يمكن القيام بها في ظل الواقع السياسي الفلسطيني القائم، والذي لا يملك الإجابات على أبسط القضايا. وبالتأكيد لا يملك أي مشروع وطني تجاه المستقبل، كل ما يقوم به هو سياسات تكيف مع واقع الحال المزري، وهو أسوأ سياسة فلسطينية يمكن اعتمادها. لذلك من المؤكد أن المؤسسات والقوى القائمة غير قادرة على القيام بالمهمة، وباتت تلعب دورا سلبيا في الواقع الفلسطيني منذ عقود، حيث بات التحرّر والتخلص منها وتحطيمها مهمة ملحة لإنقاذ المشروع الوطني الفلسطيني، قبل أن تحطم هي الوضع الفلسطيني نهائيا.
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.