عن مقالٍ أزعج الإسلاميين في تونس

عن مقالٍ أزعج الإسلاميين في تونس

05 مايو 2018
+ الخط -
هو مقال في صحيفة وموقع "العربي الجديد"، نُشر في 25 أبريل/ نيسان 2018 (عن الإسلاميين والحكم المحلي في تونس)، تناول فيه كاتب هذه السطور بعض تجارب الإسلاميين مع الانتخابات، والحكم عامة، والحكم المحلي خصوصاً في كل من تونس والجزائر ومصر، وما قد ينتهي إليه المشهد السياسي التونسي في صورة فوز حركة النهضة، واكتساحها المجالس المحلية المزمع انتخابها بعد غد الأحد (6 مايو/ أيار الجاري) من احتمالات وخيارات مشابهة لبعض تلك التجارب السالفة التي عرفت رقصات دم مأساوية، بقطع النظر عن تحديد المسؤوليات، وردّ الحقوق إلى أصحابها ضمن سياقاتٍ يحكمها العدل، وتفصل فيها العدالة، ومحاكمة تلك التجارب وتقييمها، فذلك سيكون حقلاً خصباً للمؤرخين والباحثين في الإنسانيات وحقولها المتنوعة.
كانت ردود أفعال النهضويين (من حركة النهضة) على ما جاء في المقال هستيرية لافتة ومثيرة ومشحونة بالعنف والسب والشتم والثلب لكاتب المقال، والتحريض عليه، ووصفه بأبشع النعوت والصفات، واتهامه باطلاً ومن دون أي حجج فكرية أو سياسية، بالدعوة إلى الحكم الاستبدادي والانقلابات العسكرية وتأييدها، والدفاع عن أنظمة عربية دون أخرى، وتوجيه رسائل غير إيجابية داخلياً وخارجياً، ما يتنافى مع إيطيقا (أخلاقيات) السياسة وديونطولوجيا (علم الأخلاق) الأفكار، والحق في الاختلاف، والقوانين المنظمة للحياة العامة، وما يدّعيه النهضويون من التزام بقيم الإسلام ومبادئه وأخلاقياته التي تنهى عن فحشاء الكلام ومنكره وتناهض الكذب وقول الزور، وتدعو إلى مكارم الأخلاق، حتى وإن كان ذلك في عالم السياسة ورهاناتها وما يرتبط بها من مصالح ومنافع ومغانم.
جاءت تلك الردود في شكل حملةٍ منظمةٍ لا تحمل توقيع حركة النهضة وقياداتها، ولكنها تحمل بصماتها، ناهيك أن من روّج الردود والهجمات وأشاعها وعمّمها هم أشخاص وصفحات 
ومواقع وصحف إلكترونية نهضوية ملتزمة بمبادئ الإسلام السياسي، تحرّكها إرادة خفية، تتلقى منها الأوامر لتناول قضيةٍ ما أو الهجوم على سياسي معين، أو التصدّي لحملة فيسبوكية، وهذه المسألة يعلمها جيداً المتعاطون والمشتغلون بالفضاء الاتصالي في تونس.
سيطر الخوف وظهرت الخشية جليةً، وبدا الاهتزاز واضحاً في جل النصوص والتدوينات والتعليقات التي أثارها نص المقال، الجادّة المتينة منها والهزيلة، سيما على صفحة "فيسبوك" لموقع "العربي الجديد"، ليتجاوز عدد التعليقات ثمانمائة تعليق، وأكثر من خمسة آلاف ومائة إشارة إطلاع في موقع الصحيفة على شبكة النت، وهي أرقامٌ لافتة للنظر وجديرة بالاهتمام.
لا يبدو أن ما أثاره المقال من لغط وجدل وإثارة ونقاش وكلام على الكلام ومتون وحواشٍ وصراع بين تيارات سياسية واتجاهات فكرية تعج بها تونس، في الفضاء الافتراضي وفي المعيش اليومي، كان تلقائياً وعفوياً. فقلّما يثار كل هذا الجدل الذي أخذ ملامح العراك السياسي بين تيارات الإسلام السياسي وخصومهم الأيديولوجيين، على خلفية مقال رأي ينشر في الصحافة الورقية المحلية والعربية والدولية ونظيرتها الإلكترونية، مهما كانت أهميته وجدواه ودرجة فعله في الرأي العام.
أشارت تدويناتٌ إلى أن توقيت المقال هو مصدر الإزعاج، إذ تم نشره في فترة الحملة الانتخابية للتأثير على الناخبين، وتغيير موقفهم المؤيد لحركة النهضة بعد تشويهها والتخويف من فوزها، ضمن ثقافة استئصالية قديمة، وهو رأيٌ ينطوي على تبسيطٍ ومبالغةٍ وفقدان للمصداقية، فمقالات الرأي تبقى دائماً محدودة الانتشار والتأثير، مهما بلغ حجم الجمهور الذي تصل إليه، ناهيك عن أن جمهورها نخبوي، يقتصر على بعض النخب الفكرية والسياسية، ولا تصل إلى الجمهور الواسع الذي تمثله مختلف الطبقات الشعبية التي يمكنها تحديد نتائج الانتخابات أو التأثير فيها، هذا علاوة على أن ما تتضمنه من أفكار لا تشكل مسلماتٍ أو عقائد أو أيديولوجيات أو برامج سياسية، فهي ليست بيانات انتخابية، بل مجرد اجتهادات في الفكر السياسي، وفي غيره من عالم الأفكار، إلا أن يكون النهضويون قد خططوا لاستخدام هذا المقال أرضيةً لمعركة سياسية وللدعاية الانتخابية وتعبئة مناصريهم ومريديهم في الفضاء الافتراضي لهذا الغرض.
الرأي الغالب لدى الإسلاميين في تونس أن المقال يتجنى عليهم، ويضعهم في موضع المقارنات التي لا تليق بوضعهم السياسي الجديد، معتبرين أن تجربتهم تختلف عمّا حدث في الجزائر في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وعن التجربة المصرية التي أدت إلى سقوط حكم محمد مرسي وزجّه في السجن والتخلص من جماعة الإخوان المسلمين، وإبعادها نهائياً عن الشأن 
العام المصري، وعن مرحلة صراعهم الدموي مع زين العابدين بن علي ونظامه، وما نتج عنه من آلام وجراح لم تقبل الاندمال بعد، كما أظهرت ذلك النقاشات المتعلقة بالتمديد لهيئة الحقيقة والكرامة، وحتى عن تجربتهم في الحكم أيام الترويكا الأولى والثانية التي أجهضت بأيادٍ من الإسلام السياسي نفسه، أي تنظيم أنصار الشريعة الذي اضطرّ رئيس حكومة الترويكا الثانية إلى تصنيفه تنظيما إرهابيا. مرجع ذلك الرأي وخلفيته أن القانون الانتخابي لا يسمح لهم بالفوز المطلق، ما قد يمنعهم من الانتصار الكاسح، وبالتالي حماية تجربتهم من المخاطر التي تهدّدها، وهو قول بسيط ينم عن تفكير يفتقد العمق وفقدان للذاكرة وعجز عن استحضار الماضي الذي عاشته الحركات الإسلامية، والقراءة الجيدة لتجاربها، ربما لآلامه الحادة لديهم، وخوفاً من تكراره، ومن ثمّة الفشل في أخذ الدروس والعبر من تلك التجارب، فالوقائع التاريخية في تجارب مقارنة لا يحددها مقالٌ يكتب هنا أو هناك، وإنما تتحدّد في إطار دينامية الواقع المحلي والدولي وتحولاته ولعبة المصالح وتوازنات القوة، فلم تكن طريق الفوز بالانتخابات مفروشة دائماً وروداً، حتى في أعتى الديمقراطيات وأكثرها رسوخاً.
لم يعِ الإسلاميون التونسيون أن الهزات السياسية التي تصيب المجتمع والدولة، بسبب الصراع على السلطة كما حدث في محطات كثيرة من تاريخ تونس المعاصر مع قوى سياسية مختلفة، لا تؤذي الأحزاب والتنظيمات السياسية المنخرطة فيها فقط، ولا تمرّ دائماً بسلام، وقد تؤدي إلى خراب الدولة وتفككها، والتأثير على المجتمع، وتغيير خصائصه الديمغرافية والثقافية وبناه الاقتصادية والاجتماعية، وإلحاق الأذى بشعبٍ بكامله، وتمهيد الطريق لتؤول السلطة إلى غير مستحقيها خارج لعبة الصندوق والتداول السلمي على السلطة، الطريق الأمثل إلى العيش المشترك، كما حدث في دولٍ عربية عديدة، ما يستوجب الاستفاقة والانتباه وعدم أخذ الأمور بالعواطف الجياشة، فالنجاح السياسي كان دائماً خاضعاً لحساباتٍ دقيقةٍ ومعادلات متكافئة، أما العنتريات السياسية فمآلها السقوط من أعلى القمم إلى قاع الحُفر.