من السيسي إلى السادات: هكذا تُنجَزُ المهمة

من السيسي إلى السادات: هكذا تُنجَزُ المهمة

01 يونيو 2018
+ الخط -
منذ أول يوم ظهر فيه عبد الفتاح السيسي وحلفاؤه، أو تابعوه الذين توّهموا أنهم حلفاء، لقيادة مصر في 3 يوليو/تموز 2013، يستمر النظام في واحدةٍ من أعتى عمليات الاعتقال، وأوسعها انتشارًا في تاريخ مصر الحديث. والاطلاع على أرقام تقارير المنظمات المحلية والدوليّة كافٍ لتكوين صورةٍ عن مدى شراسة النظام في عملية قمع المجتمع و"دهسه". كما أن الاطلاع على مشاريع البنية التحتية التي تعلنها الحكومة يؤكد بشكل موضوعي درجة منهجيّة النظام في اتباع خط الاعتقال والاختطاف ومداه المرسوم.
يتمركز في أحياء المُدن والمحافظات في الدول المختلفة معمار أساسي، يخلق فضاءً مميزًا للحي والمدينة: جامعة أو مراكز تسوّق أو معمار مواقع دينية (كنائس ومساجد) تَسِمُ المدينة بهويّة ثقافيّة، وتتشكل حولها أحزمةٌ سكنيّة تزيد من الحراك الاجتماعي، وتجذب معها مزيدا من الاستثمارات، فتتخلّق ببطء المدينة وثقافتها، ويتشكّل مجتمعها. ما يقوم به النظام المصري حاليًا شيء من هذا القبيل، مع تميّز في هويّة المِعمار المنحطّة؛ فأهم المشروعات المعماريّة وأنجحها في عهد نظام عبد الفتاح السيسي كان، بلا منازع، بناء السجون وتوسيعها ونشرها في مختلف المدن المصريّة وتحويلها إلى مَعلَم، متدنٍ جماليًا بالضرورة، يُعبّر عن هوية المدينة المصريّة في عهده، وبشكل يذكّرنا أحيانًا بسوريّة الأسديّة. ومنذ 2014 وحتى صيف العام الفائت، صدرت قراراتٌ حكوميّة ببناء عشرين سجنًا، وهذا معدّل كبير حتى بمقياس الديكتاتوريّات.
لحملات الاعتقالات الجارية على قدمٍ وساق منذ 2013 تفسيرات كثيرة، أغلبها صحيح، 
خصوصا التفسيرات العامّة التي ترى سُعار النظام سمةً بنيويةً فيه، لكونه نظام ثورة مضادة يتميّز بالضراوة، لعدم ثقته بعدُ في رسوخه، ولتوجسه الدائم من ذكرى الثورة غير البعيدة. وقد عبّر الرئيس السيسي عن هذا الشعور علنًا في إحدى المناسبات أخيرا. ولكن حملة الاعتقالات في الشهر الماضي (مايو/أيار) تتميّز بجنون إضافي، ربّما يشير إلى أمورٍ أكثرَ تحديدًا.
تذكرنا حملة مايو الحاليّة باعتقالات 5 سبتمبر/أيلول من عام 1981 في آخر عهد أنور السادات. وفي الحملتين بعضُ أوجه الشبه، والكثير طبعًا من الاختلافات؛ فكلاهما سُبقتا بخطوة سياسيّة تمس السيادة، وبتوظيفٍ لقضايا حساسة (الفتنة الطائفيّة والإرهاب) وباصطدام مع النقابات: السادات مع نقابة المحامين، والسيسي مع الصحافيين، وإن كان "اصطدام" السيسي أسهل بكثير وأقرب إلى العملية الأمنية البسيطة منه إلى الاصطدام، لأسبابٍ كثيرة لا مجال لبحثها هنا.
ولنتذكّر أن السادات لم يذهب نحو الاعتقالات المسعورة في عام 1979، على الرغم من اختباره للغضب الشعبي قبل ذلك بعامين، لكن تفاعلات المجتمع مع سياساته الاقتصادية وتكتيكاته السياسية الكارثيّة وجَرحِه المباشر للوطنيّة المصريّة دفعته بعد عامين من التروي النسبي إلى الذهاب عام 1981 نحو القمع الواضح، بعد استشعاره بعض الخطر، ليس لسلطة الدولة فحسب، بل أيضًا لأسطورته الشخصيّة وشرعيّة النظام.
يمكن سحب هذا على حالة السيسي؛ فعلى الرغم من أن حملات الاعتقال مسعورة في الأصل، لم تصل إلى مداها الحالي أيام قضيّة منح جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، والتي جرح بها النظام أيضًا الوطنيّة المصريّة وإيديولوجيّة النظام التاريخيّة، ومنبع شرعيّته الأولى والمفروغ منه. ولكن يبدو أن رؤية النظام لتفاعلات المجتمع مع السياسات الاقتصاديّة المُدمّرة مُجدَّلةً باستخدام قوى مختلفة مناوئة للرئيس، بما فيها قوى من داخل الجيش والنظام، لموضوع الجزيرتين، قد دفعت قيادة النظام أخيرًا إلى بلوغ حدّه الأقصى في الاعتقال، خصوصا بعد احتجاجات المترو، والتي فاجأت النظام بوقوعها بعد كل ذلك الكم من القمع والساديّة والاعتباطيّة والتسيير المباشر للإعلام والمتصل منذ أربع سنوات.
من الفروق الهامّة بين الحملتين أن السادات ركّز على "النخب" المصريّة أولًا، والمعارضة له من خارج النظام ثانيًا (شيوخًا وشبابًا)، بينما اعتقالات نظام السيسي عموديّة الطابع: رئيس دولة منتخب ووزراء سابقون وصحافيون ومصورون وسياسيّون معارضون وحزبيون وأساتذة جامعيّون وباحثون ورئيس أركان سابق وضُبّاط وبيروقراطيُّون ونشطاء سياسيون - ثوريّون شباب، أغلبهم بلا وزن اجتماعي فعلي خارج العالم الافتراضي، ومواطنون ومواطنات كُثُر اعتقلوا بطريقة عمياء، أي أن مشكلتهم كانت حظهم التعس الذي جعلهم في يومٍ ما يجلسون على أحد المقاهي، أو يمرون في طريق عام. ولهذا، فإن قول محمد حسنين هيكَل إن السادات "سجَنَ مصر" في سبتمبر 81 يصحُّ أكثر على حالة السيسي، خصوصا في الشهور الثلاثة الأخيرة.
لاختلاف تركيز الاعتقالات ومداها بين الحملتين أسباب، بعضها ظرفي وبعضها غائر الجذور؛ 
فثمّة اختلافاتٌ كبيرة بين النظامين في فهم الثورة والتهديد: بين نظامٍ رأى "الثورة" حركة قِلّة (ضباط في الجيش) تُدعم شعبيًا فيما بعد، ونظام جديد اختبر المعنى الهائل لـ "الثورة الشعبيّة" (وقاد هو ثورة مضادة)، بما هي كتل من الناس تموج في الشوارع والميادين تلحقها بيانات أحزاب أو عرائض مثقفين. ولهذا يظهر للمتابعين أحيانًا أن نظام السيسي يتعامل مع الاعتقال هدفا بحد ذاته؛ أي الاعتقال لأجل الاعتقال، في حين أن المسألة تحتوي هذا وتتعداه؛ ففهم الثورة الشعبيّة عند النظام الحالي يترتب عليه أن كل فَردٍ مشروعُ عدوٍّ للنظام.
وأخيرًا، يبقى هنا فارق أُرجّحه: إذا كانت اعتقالات سبتمبر 1981 بسبب تشنج النظام من الحدث الجاري، فإن اعتقالات مايو 2018 تحوي التشنج من الجاري والمستقبل. ولا أرجح أن المسألة تختزل باعتبارها تمهيدا لحزمة إجراءات اقتصاديّة قاصمة لظهر الناس، يزمع نظام السيسي اتخاذها فحسب، بل يبدو، من السياق الراهن في سيناء ورفح، والسياسات المصريّة تجاه غزة، والعلاقات السعودية/ الإماراتية/ المصرية/ الإسرائيليّة، وسياق سياسات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في الشأنين الإسرائيلي والإيراني، أن النظام مقدمٌ على خطوة سياسيّة خطيرة قريبًا، تخص "صفقة القرن" والقضية الفلسطينيّة أو سيناء: ثمّة كارثة حقيقيّة يُحضّر لها نظام السيسي، ويريد لها المرور بسلاسةٍ وبلا هزّات.. وآمل أن أكون مخطئًا.
8AC1ED65-78A2-4712-AD9B-FBCD829DA394
أيمن نبيل

كاتب يمني، من مواليد 1991، يقيم في ألمانيا لدراسة الفيزياء النظرية. نشر عدة مقالات في السياسة والاجتماع والثقافة والفنون، في عدة صحف يمنية.