في حاجة المغرب إلى طفرة ديمقراطية جديدة

في حاجة المغرب إلى طفرة ديمقراطية جديدة

01 يونيو 2018
+ الخط -
منذ الانتخابات التشريعية التي عرفها المغرب سنة 2016، والتي بوأت للمرة الثانية على التوالي حزب العدالة والتنمية الصدارة، وهو الذي يترأس الحكومة الحالية، دخل المشهد الحزبي المغربي في حالة من التصدّع والارتباك والحيرة السياسية، نتجت عنها وضعية من الفراغ والهشاشة، وشبه غياب لنظام الوساطة، لا سيما على خلفية اندلاع حركات احتجاجية اجتماعية في عدد من المناطق، خصوصا في الريف والشرق. وكان لافتا أن الرهان عقد رسميا وقتئذٍ على حزب الأصالة والمعاصرة (كان يقوده إلياس العماري الذي استقال من منصبه أخيرا) ليتصدّى لزحف الإسلاميين. وبالتالي احتلال المرتبة الأولى مقدمة لرئاسة حكومة كان من المفروض أن يشكلها من حلفاء تجمعهم المقاصد والغايات السياسية نفسها، على أرضية برنامج مغاير في كثير من عناوينه لبرنامج الحكومة التي كان يترأسها عبد الإله بنكيران، غير أن الأهداف الانتخابية التي رسمها مهندسو حزب الأصالة والمعاصرة لم تتحقق كاملة، ما أطاح دقة (ومصداقية) التوقعات والمعطيات التي ربما استقرت في أذهان قادته، حيث لم يصمد الخطاب الانتخابي ونمط التواصل السياسي في وجه الاستراتيجية الكاسحة التي تبناها حزب العدالة والتنمية.
ولا يستبعد مراقبون أن تركيز خصوم حزب العدالة والتنمية، في خطابهم وبرنامجهم على محاربة الإسلام السياسي والاتجار بالدين وتحويل مواجهة الحزب إيديولوجيا إلى برنامج انتخابي، هو ما دفع شرائح واسعة من المجتمع المغربي إلى التعاطف مع الإسلاميين، واعتبار محاصرتهم وجلدهم من أشكال الظلم.
وإذا كانت السياسة في جوهرها هي فن الممكن، وكونها أيضا ليست ملزمةً بتعاقد أخلاقي، 
وبعقد مؤشر عليه، أو إعلان مبادئ متفق ومتوافق بشأنها بين مجموعة من الفاعلين، بما في ذلك الدولة، فإن ما يهم في هذه الحالة هو صناديق الاقتراع التي وحدها تصبح المعيار الذي يحتكم إليه صناع القرار، لضبط قواعد اللعبة السياسية بالشكل الذي لا يخلّ بالتوازنات المطلوبة والضرورية لتدبير الشأن العمومي، وتطبيق مختلف القرارات والاختيارات الكبرى. وتبعا لذلك، طرأ تغير ملحوظ على الآمال السياسية والانتخابية التي كانت معقودة من الحكم على حزب الأصالة والمعاصرة، فبدا واضحا أن الحاجة ملحة لاستبدال هذا الفاعل السياسي بفاعل آخر، لم يكن سوى حزب التجمع الوطني للأحرار الذي يوجد في الساحة السياسية منذ سبعينيات القرن الماضي، حيث مكّنته مشاركته في حكومات متعاقبة من مراكمة تجربة مهمة في تدبير الشأن العام، وامتلاك معرفة كبيرة بكيفية اشتغال دواليب الدولة، وفهم أهمية التوازنات، عندما تكون مطلوبة وأساسية.
ولإضفاء مسحة من البراغماتية السياسية على هذا التوجه، اختير رجل الأعمال عزيز أخنوش رئيساً للحزب، خلفا لصلاح الدين مزوار الذي كان يشغل وزيرا للخارجية في حكومة بنكيران، من منطلق أن شخصية أخنوش واقعية وبراغماتية وعملية، وتحظى باحترام عدد من القوى السياسية، وبثقة الفاعلين الرسميين. ومن شأن هذا الأمر أن يجعل منه البديل المثالي لقيادة حزب الأصالة والمعاصرة الذي دخل في نوع من التيه السياسي، وظهر جليا أنه بات يعاني من أزمة تسيير، وأزمة هوية أيديولوجية، انعكست سلبا على أداء جل أجهزته، وأحدثت حراكا فكريا وإعلاميا بين نشطائه، بهدف فهم ما حدث.
على الرغم من هذا التوجه، على الرغم مما بذل من جهود حثيثة لتحسين جودة المنتوج الحزبي، في محاولةٍ لكسب ثقة الشارع، وإقناع المواطنين بجدوى العمل السياسي والانخراط في الأحزاب، فإن الوضع السياسي اكتنفه الغموض، وفقدت فكرة السياسة نبلها ودلالتها الإيجابية، حيث أصبحت معادلا للفساد وامتلاك الثروة وخدمة المصلحة الشخصية. وتحولت الانتخابات، في نظر الرأي العام، إلى استحقاقٍ غير ناجع. وأصبحت هذه الصورة القاتمة تقيم حتى في أذهان قادة حزبيين لا يتردّدون في الدعوة إلى طفرة ديمقراطية جديدة.
وهذا ما عبّر عنه أخيرا نبيل بن عبد الله، الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية الذي جدّدت فيه قواعد حزبه الثقة لثالث مرة قبل أيام، عندما قال بالحرف "لا نعرف إلى أين نسير"، فحسب رأيه، أصبح الوضع السياسي يكتنفه القلق، وهناك تعابير سياسية تشير إلى وجود حيرة وقلق وغموض، ولا أحد يمكنه أن يؤكد بوضوح إلى أين نسير ومع من نسير. ويجزم بن عبدالله الذي تسلم حقائب وزارية سابقا أن الأحزاب المغربية، بشكل عام، تعيش صعوبات مرتبطة بتبخيس العمل السياسي، وفقدان المصداقية فيها، وجلها بات يعرف ضعفا حقيقيا، وعدم القدرة على احتضان الغليان المعبر عنه في تعبيراتٍ اجتماعيةٍ في عدة مناطق، مثل الحسيمة وجرادة وزاكورة. واعتبر الزعيم اليساري الذي عقد تحالفا مع حزب العدالة والتنمية (الإسلامي) أن هناك شعورا بالحرمان والشجب والرفض، وبعدم المساواة لدى فئات واسعة في المجتمع، وصل إلى حد إطلاق حملة مقاطعة في مواقع التواصل الاجتماعي، ليستنتج أن البلاد تعيش اليوم فراغا سياسيا، ولا يمكن للديمقراطية أن تعيش بدون أحزاب، وتعابير مختلفة.
تتقاسم هذه الخلاصة مع بن عبدالله أحزاب سياسية من مختلف المرجعيات والحساسيات، فالجميع يؤكد أن مصداقية الأحزاب تكمن في استقلالية قرارها، وأن ما مورس في السنوات الأخيرة إزاء العمل السياسي فعلٌ كان في غير محله. وهذا ما يحتم، في الوقت الراهن، مقاربة جديدة، وعلاقات مغايرة قائمة على الثقة بين الدولة ومختلف القوى السياسية، خصوصا وأن المغرب يعكف حاليا على صياغة نموذج تنموي جديد، بعد الانتقادات شديدة اللهجة التي وجهها الملك محمد السادس إلى النموذج التنموي الذي عمّر وقتا طويلا، غير أن معظم الأحزاب السياسية تعتبر أن المدخل الحيوي للنموذج التنموي البديل هو توسيع الفضاء الديمقراطي، وإعطاء قيمة جدية للعمل السياسي، ورد الاعتبار للأحزاب، لتكون قادرةً على قيادة هذا النموذج. وبعد ذلك، تأتي مرحلة توضيح الاختيارات الاقتصادية، بما في ذلك الاهتمام بالعدالة الاجتماعية والمجالية.
وشكلت مقاطعة مواد استهلاكية، كالحليب والماء المعدني والمحروقات، وقد اشتعلت في مواقع التواصل الاجتماعي، حركة احتجاجية اجتماعية سلمية، قامت بها فئات واسعة من المجتمع 
المغربي، تعاني من ارتفاع الأسعار وتدهور القدرة الشرائية، بعد أن فشلت سياسة تحرير الأسعار في تحقيق المزايا التي كانت منتظرة. ويفسر خبراء في المغرب هذا الفشل، بسبب التداخل بين المال والسلطة، وهو ما جعل الاقتصاد المغربي يبقى بعيدا عن الاقتصاد الليبرالي الذي يؤمن بمنطق اقتصاد السوق والمنافسة الحرة التي تؤدي إلى انخفاض الأسعار. وبصرف النظر عن المضمون الاقتصادي للمقاطعة، وجّه المقاطعون رسائل سياسية صريحة، دعت إلى وقف استمرار احتكار جهات بعينها الاقتصاد، تعتبرها مرتبطة بمصالح سياسية. كما أن هذه المقاطعة التي دفعت الشركات المستهدفة إلى القيام بحملات تواصلية مكثفة، لتحسين صورتها، وكسب ثقة المستهلكين، أبانت عن وجود وعي متقدم للمواطن المغربي وطرائق بديلة لممارسة فعل الاحتجاج.
وطبيعي أن تمتد الحركات الارتدادية لزلزال المقاطعة إلى المجال السياسي، حيث أصبح واضحا أن هناك حاجة ملحة لإعادة هيكلة الحقل الحزبي، بما يضمن بلورة تصوراتٍ وخرائط طريق ومشاريع، من شأنها إعادة الثقة للمواطنين، خصوصا فئة الشباب التي تعد الحلقة الأضعف في عملية التسييس والإقبال على الانخراط في الأحزاب. كما أن هناك قناعة راسخة بعدم جدوى (وفعالية) الخطاب السياسي الشعبوي، والمزايدات السياسوية، العامل الذي أصبح يحتم جيلا جديدا من القيادات الحزبية، تحظى بالمصداقية ونظافة اليد، وقادرة على التجديد والابتكار والإبداع، في صياغة الحلول، والتعامل بواقعية مع الواقع والوقائع، من دون تنميق أو استعمال مساحيق.