عن الزفاف الملكي البريطاني

عن الزفاف الملكي البريطاني

31 مايو 2018

الأمير هاري وميغان ماركل إلى قلعة وندسور (19/5/2018/Getty)

+ الخط -
عام 1936، يصعد إدوارد الثامن إلى العرش البريطاني، وهو ما يزال عازباً. بسرعةٍ، تظهر عليه علامات التبرّم من البروتوكول الملكي وصرامة نظامه. بعد أشهر على توليه العرش، يتعرَّف إدوارد على واليس سمْبسن: سيدة مجتمع أميركية، لكنها تنتمي إلى سواد الناس؛ بيضاء لكنها مطلقة. يقع في غرامها، فيفصح عن نيته بالاقتران بها. الكنيسة والحكومة تقفان بوجهه. وقتها، لم يكن يدخل في نواميس المؤسسة الملكية زواجُ أرستقراطيٍّ بريطاني بامرأةٍ "عاديةٍ"، فوق أنها مطلقة. فكيف بملِك؟ لكن جنون غرامه يدفعه إلى التخلّي عن العرش، وتفضيل سعادته على الحياة البروتوكولية الجافّة التي يحياها الملوك البريطانيون. هكذا، يتحقّق حلمه، يتنازل عن العرش، فيعْتليه شقيقه جورج السادس، والد الملكة اليزابيث الثانية، ملكة اليوم.
هل كان أهل ثلاثينات القرن الماضي يتخيّلون أنهم سيحتفلون بزفاف "مختلط"، يتجاوز الطبقة، الفئة، واللون والوضعية الاجتماعية؟ الأمير هاري، حفيد الملكة اليزابث، الرابع في حق العرش، يُغرم بامرأة تتجاوز، وبسنواتٍ ضوئية، مواصفات معشوقة عم جدّته، السيدة واليس سمْبسن: "سمراء"، أي خليط من العرق والأبيض والأسود، وتعتبر "سوداء" في القاموس العنصري، الذي لا يرى الوجه "الأبيض" فيها.. تماماً كما كان يُنظر إلى باراك أوباما، "رئيس أسود"... إذن، ميغان ميركل، امرأة "سمراء"، مطلقة، تكبر الأمير هاري بثلاث سنوات، ناجحة، لها مهنة النجوم، وشخصية خاصة جداً. الملكة اليزابيث لا تعترض على الزواج هذا. بل تباركه، ويتقرّر إقامة حفل زفاف، انشغل به ثلث الكرة الأرضية، لشدة 
استثنائيته. ليس الفخامة والأناقة فحسب. إنما المدعوون إليه، الذين غلب عليهم أصحاب البشرة السوداء: والدة العروس أولاً، دوريا رادلان، المطلقة بدورها، وذات الجذور في نظام العبودية الذي حكم أميركا في الماضي القريب. لم تسعَ ميغان إلى إخفاء والدتها، صاحبة اللون الأسود، "المسؤولة عنه"، كما كان يفعل معظم الشبان "السمر"، ذوو الجذور العرقية المشكَّلة (في رواية "البقعة" للأميركي فيليب روث الذي رحل عن دنيانا منذ أيام، يخفي البطل كولمان سيلك أباه الأسود عن محيطه). في الزفاف أيضاً شخصياتٌ نسائية سوداء، كالإعلامية أوبرا وينفري، وبطلة التنس سيرينا وليامس؛ فضلاً عن شخصياتٍ سوداء معروفة، إدريس إلبا، وجينا توريز وغيرهما. ولم يقتصر الحضور الأسود على المدعوين، إنما امتد إلى مدير الشعائر والصلاة، القس الأسود مايكل كوري الذي استشهد، في عظته، بكلماتٍ للأميركي مارتن لوثر كينغ، بطل معارك الحقوق المدنية للسود: "في الحب نجد الخلاص. بالحب يمكننا تحويل العالم القديم إلى عالمٍ جديدٍ. الحب هو الوسيلة الوحيدة". والأبهى أن أغنية "ابق إلى جانبي" التي أنشدها الكوْرس في أثناء حفل الزفاف، هي أولى الأناشيد المعتمدة في حركة المطالِبة بالحقوق المدنية، بقيادة مارتن لوثر كينغ نفسه. أغنية احتجاج على التمييز العنصري. وفي الفرقة الموسيقية التي صاحبت الكورس، عازف كمنْجة أسود أيضاً تميز أداؤه، وعُلِم لاحقاً انه أول شاب أسود (19 عاماً) يحصل على جائزة "بي بي سي" للموسيقى.
كثيرون لم تعجبهم العروس، ولا زيّها ولا تسريحتها، ولا بساطة تبرّجها؛ ناهيك عن لون بشرتها، وعمرها، وطبعاً كونها ثيّباً، مطلقة. هذا في الذوق وفي المجالات القريبة منه. وقد حفلت مواقع تواصلنا بأشياء من هذا القبيل. ولا حاجة للتوقف عندها، إلا للمقارنة بين الأمزجة والخصال، فالآراء التي خرج منها حفل الزفاف هذا تستحق التوقف عندها أكثر: وكانت مفصّلةً على قياس "أيديولوجية" أصحابها، فأمام الفضول العالمي المحموم لمتابعة هذا الحدث الغرامي الملكي.. كانت أنفَةٌ من نوع خاص، ولسان حالها يردِّد أصداء ماض قريب: من أن التغيرات الحاصلة في أعلى السلم الاجتماعي، كما في هذا الزفاف، لا تطاول الأكثرية الساحقة من المعذَّبين السود، والنساء المهمشات، أو المظلومات، والمحرومين من أبسط حقوقهم. وبأنه، خارج الصخب "المخْملي" لأهل الشهرة، لا أهمية ولا ثقل ولا تغيرات "جوهرية"، على هذا الصعيد. الجمهوريون الأقحاح، المتمسِّكون بالتغيرات "تحتية"، يدافعون عن هذا الرأي. يقابلهم أصحاب الصورة، الحافظون قوة الرمز، وقدرته على إحداث تحولاتٍ في المخيّلة المدنية والجندرية. يهابون الرمز، ويرتكزون على صورته، أيقونته، ويرون انه مولِّد حركة ذهنية لدى "العامة"، وقادر على تبديل العقليات.
من دون أن ننفي شيئاً من الصحة في كلا الرأيَين؛ ثمّة زاوية إضافية في هذا الزفاف تستحضر الكلمة الشهيرة لبطل رواية "الفهد" (الإيطالي جوزيبي لامبيدوزا): "يجب أن يتغير كل شيء لكي لا يتغير شيء". وسياقها، عام 1860، عندما كانت إيطاليا تخوض معركة توحيدها وتحديثها بقيادة الحركة الجمهورية. البطل الأرستقراطي، دون فابريزيو سالينا، مالك الأراضي الشاسعة في جزيرة صقلية، وإبن اخيه، ترانسيد، الأرستقراطي الآخر، صاحب هذا القول
الشهير الذي ينخرط في صفوف الجمهوريين، بل يقرّر فسخ خطوبته مع ابنة عمه الأرستقراطية، ليتزوج أنجليكا إبنة رجل من الشعب، قليل التربية والتهذيب، منخرط في الحركة الجمهورية، وقد اغتنى خلال الحرب التي دارت في أولى سنوات هذه الحركة. "يجب أن يتغير كل شيء، لكي لا يتغير شيء": هو جواب ترانسيد لعمه المصدوم من كل هذه التحولات التي أصابت ابن أخيه. وهو يعني أن مشاركته في التغيرات "الشعبية" الجديدة الآتية بقوة الزمن، تحفظ موقعه القديم الأرستقراطي، وكل امتيازاته وثروته: أي أن عليه الالتحاق بحركة الجمهوريين، والاقتران بواحدة منهم، إنقاذاً لموقعه الأرستقراطي.
والملكية البريطانية اليوم لا تغيب عنها تبدلات زمننا، ذات الوتيرة الأسرع. وهي، بمباركتها هذا الزواج تُبيّن كيف تعرف أن تندرج في مناخ هذا الزمن، وتصوراته الصاعدة: لكي لا تفنى، لكي تبقى الملكة ملكةً، عليها أن تتغير، وترحب بهذا الزواج، تماماً كما حصل مع بطل رواية "الفهد"... وإلا طارت الملكة ومعها الملَكية.
ولكن، ما كان ذلك كله ممكناً لولا الحب، أكبر صانع للأقدار وأعظم بائع للأحلام. وثمّة محظوظون برعَ القدر في صناعة أحلامهم. فهل نشقى لفرحهم؟