إضراب الأردن مقدمة "ربيع" قادم؟

إضراب الأردن مقدمة "ربيع" قادم؟

31 مايو 2018
+ الخط -
لم يسبق للأردنيين، من شتى المنابت والأصول، ومن مختلف شرائح المجتمع السياسية والاقتصادية، أن اجتمعوا على أمر ما كما اجتمعوا على رفض مشروع قانون ضريبة الدخل الجديد. ولم يسبق أن اتفقوا على قرار واحد، كما فعلوا بشأن قرار الإضراب، أمس الأربعاء، بغض النظر عن حجم المشاركة في الإضراب، بل تكاد أجواء حراكات الربيع العربي تلوح مع تلك النشاطات المحمومة التي ألهب مشاعرها مشروع قانونٍ أقلّ ما يوصف به أنه مجنون ومتطرّف، يسلب ما بقي في جيوب الأردنيين من قروشٍ قليلة، نهبتها حزمة من أنواع المكوس والضرائب والإتاوات الرسمية يقال إن عددها يناهز المائة وخمسين نوعا، وهو رقمٌ، وإن كان مشكوكا في صحته، إلا أن كثرة قوانين الجباية وتشريعاتها تلقي في روع الناس في الأردن أن هذا الرقم، حتى لو كان مضخما، هو تعبير دلالي عن الكثرة والتنوع في إبداع طرق رسمية لسلب الناس أموالهم.
ما يصب الزيت على نار القهر السائدة في العقل الجمعي الأردني أن كثرة الضرائب تلك غير منضبطة مع ترشيد للاستهلاك الرسمي، أو مكافحة حقيقية للفساد والرشوة والمحسوبيات والمحاباة، فرجال الحكومة يتصرّفون، في سفراتهم وغدواتهم وحتى في رواتبهم، كما يتصرّف أبناء دولةٍ غنيةٍ متخمة، وهو ما يعطي انطباعا شعبيا مفاده بأن على أبناء الفقراء الأردنيين أن يجوعوا أكثر، لكي يشبع المحظيون من "نخبة الحكم"، ويشبعوا زوجاتهم وأبناءهم، بل ويشبعوا أيضا كلابهم وقططهم الجميلة، وهذا شعورٌ يكاد يكون عاما لدى قطاعات واسعة من الأردنيين.
ما يتحدث به رجال النخب الأخرى، وبعضها جزءٌ من نخب الحكم، سواء كانت في الوظيفة 
الرسمية حاليا، أو سابقا، هو أخطر بكثير مما هو شائعٌ في العقل الجمعي الشعبي، ويكفي أن تستمع لما يقالُ، في أي صالون سياسي في عمّان، لتدرك أن هذا البلد بالفعل على مفترق طرقٍ كبيرٍ وخطيرٍ وغير مسبوق، حيث يتداول القوم سيناريوهاتٍ شتى، تشمل كل ما كان من ثوابت في حياة الأردنيين، وبدون أي استثناء. وما زاد الطين بلةً، مشروع قانون ضريبة الدخل الجديد الذي ألهب مشاعر هي في حالة استفزاز أصلا، فكانت تلك الحالة الشعبية العامة التي لم ترفض مشروع القانون فقط، بل مجمل السياسات الرسمية. أكثر من هذا، في وسع المراقب متوسط الذكاء هنا أن يلحظ سيادة حالةٍ عن عدم اليقين على كل الصعد. ولا يحتاج الأمر أن تكون محللا اقتصاديا محترفا، لتدرك أن الناس في حالة ترنحٍ لفرط ما هم فيه من ضيقٍ اقتصادي، ولولا بعض المواسم الاجتماعية والدينية (رمضان والأعياد مثلا، وبداية دخول المدارس وما شابهها) لكان الحال أكثر سوءا، فحركة السوق تعتمد عادةً على حركة الرواتب، وهي تقريبا تغطي الأسبوع الأخير من الشهر، حيث تصحو الأسواق لتعود إلى سباتها انتظارا لأسبوع مقبل.
أخطر ما يقال في صالونات ساسة البلد أن قرار الإصلاح الاقتصادي معلق لأجل غير مسمى، لأنه مرتبطٌ بحزمةٍ من المحدّدات السياسية، عابرة للحدود. وبمعنى آخر، لا يوجد قرار سياسي بالإصلاح الاقتصادي، وبالتالي على الأردنيين أن يبقوا في حالةٍ معاناة وعنت، انتظارا لما سيلقى عليهم من تبعات السيناريوهات المقبلة لشكل الأوضاع في المنطقة العربية، خصوصا فيما يعني فلسطين، وما يتعلق بها من صفقاتٍ وحلول واقتراحات وقرارات يصدرها "حكام العالم" وكهّانه.
بتعبير أكثر وضوحا، المطلوب تجويع الأردنيين، ورفع درجة معاناتهم حتى يقبلوا، بعد طول معاناةٍ، أي سيناريو يفرض عليهم، ليس لحل قضية فلسطين، بقدر ما هو لحل مشكلات "إسرائيل"، وتوفير "بيئة" مناسبة لها للتمدد والاستمتاع باحتلالها كامل فلسطين التاريخية.
السيناريوهات في هذا الباب كثيرة، والتسريبات التي يتداولها القوم تحمل كثيرا من الشطط، والخطورة في آن، وهذا ما سبّب حالةً من التوتر العالي في أوساط نخب المجتمع، امتدت إلى بقية الطبقات. وجاء مشروع قانون ضريبة الدخل، ليثقب فقاعة القهر، ويصبح التعبير الرافض للسياسات الرسمية واحداً من معالم الأردن، حتى لدى من عرفوا بموالاتهم الدائمة لتلك السياسات، بعد أن أصبح الدفاع عن هذه السياسات ليس مكلفا شعبيا فقط، بل مستحيلا من الناحية المنطقية، وغير متّسقٍ مع ما عرف من اعتدال ماز سياسات البلد عقودا طويلة.
"إضراب الأردن" هو جرس إنذار كبير، ليس محليا فقط، بل ربما هو رسالةٌ بالغة الأهمية أيضا لأولئك الذين يفرضون على الشعوب سياساتٍ وقراراتٍ، لا تحقق الحد الأدنى من مصالحها، بل تنتصر لجبروت الاحتلال الإسرائيلي، وتخطط لتأبيده، وتحميل الأردن جزءا من عبء حل مشكلاته، وربما يكون هذا الإضراب، بغض النظر عن حجم المشاركة الشعبية فيه، "بروفة"، أو تمرينا بالذخيرة الحية لربيع أردني ساخن قادم.