المجرم ومليشياته.. العروبة والمقاومة

المجرم ومليشياته.. العروبة والمقاومة

04 مايو 2018
+ الخط -
يتباكى بعضهم في هذه الأيام على العروبة، ويزعمون أن ثورات الربيع العربي هي السبب في ما آلَ إليه الحال، أو باقي هذه الخرافات عن تقسيم المقسّم وتدمير الجيوش العربية، و"سايكس بيكو" الثانية، إنه هذا الخليط المعادي للثورات العربية من الناصريين والقوميين العرب الموالين لإيران، بالإضافة "للدولجية" وداعمي السلطوية الذين لا يَرَوْن في الدنيا إلا ضرورة حماية الزعماء.. "رموز الدولة"، وحماية الجيوش حتى لو كانت مليشياتٍ طائفية، إنهم تحوّلوا من فكرة الحفاظ على الدولة إلى فكرة عبادة الحاكم الفرد وتقديس جيشه، مهما كان مجرما. ويتساءل بعضهم، وإن كان تساؤلا له وجاهة حول مصير سورية، إذا اختفى بشار جرّاء القصف الأميركي الفرنسي البريطاني، ولكن هناك من يتجاهل، متعمدا، أنه ليست هناك رغبة لدى الغرب في تصفية بشار الأسد، ولو كانت لتم الأمر منذ زمن، كما أن هناك توافقا أميركيا روسيا أوروبيا إيرانيا بشأن بقاء بشار، وما الصراع إلا حول اقتسام مناطق النفوذ في سورية.
لم يكن ما حدث في سورية ليحدث لولا أن بشار أدخله طرفا، وزجّه في الصراع منذ البداية، واستخدمه أداة لقتل الشعب، وإخماد الثورة السلمية، وهو ما أدى بعد ذلك إلى كل تلك الانشقاقات في الجيش، وتكوين الجيش السوري الحر من الضباط الذين رفضوا أوامر القتل والذبح والإبادة الجماعية. ومع زيادة الانشقاقات، عمد بشار إلى استراتيجية أسلمة الثورة، وإطلاق المجال للجماعات الإسلامية العنيفة، بل والإفراج عن قياداتٍ في التنظيمات الجهادية التي ظلت سنوات في السجون قبل الثورة، حتى يتسنى له ادعاء أنه يحارب الإرهاب. ومع الوقت، تزايدت الفصائل المسلحة المناهضة لبشار، وزاد نفوذ تنظيم القاعدة الذي انشق عنه تنظيم داعش بعد ذلك، والذي أطلق مشروعا يختلف عن مشروعات القاعدة والتنظيمات الإسلامية السابقة عليه، بأن أعلن بالفعل قيام دولة الخلافة في الشام والعراق، وطلب مبايعة الجميع للخليفة الجديد.
يصرخون ليلا ونهارا للحديث عن المؤامرات الكبرى ضد الوطن العربي، وعن ما يطلقون 
عليها "سايكس بيكو" الثانية ومؤامرات التقسيم، يتباكون على ما أطلقوا عليه "العدوان الثلاثي الجديد"، لكنهم أيضا يتجاهلون المجازر الوحشية التي يرتكبها جيش بشار، بمساندة الدب الروسي ومليشيات إيران وحزب الله، يتحدثون عن الأطماع الاستعمارية الغربية والأميركية، وأنهم من صنعوا "داعش". ولكن ماذا عن الأطماع الإيرانية والروسية في المنطقة، هل تعبأ الإمبراطورية الفارسية بالعروبة والأمجاد العربية القديمة؟
هل يهتم قيصر روسيا بما يطلق عليه المقاومة والممانعة، أو حق الشعب الفلسطيني وإزالة دولة الاحتلال من على الخريطة، كما يزعم القوميون.
يتباكون طويلا على ما يطلق عليه الجيش العربي السوري، ولا يهتزّ لهم جفن أمام كل تلك الدماء وكل هؤلاء الضحايا من الأطفال والنساء. إنهم عبدة الأصنام، صنم الجيش، وصنم الزعيم الملهم. لا يعني لهم الإنسان شيئا، فالقومية والعروبة عندهم هي فقط الجعجعة الفارغة عن المقاومة وإلقاء إسرائيل في البحر، والحديث الدائم عن أساطير المؤامرات الكونية لتدمير المارد العربي، والعِرق العربي المتميز، وإفشال الخطط العبقرية للزعيم الخالد الذي لا يأتيه الباطل. الأساس عندهم هو الجيش والزعيم، فالشعب خُلق من أجل حياة الزعيم وجيشه، وليس كما نعتقد أن الجيش لحماية الناس، والرئيس لخدمتهم ورعاية مصالحهم، والقومية والعروبة والمقاومة عندهم هي الحفاظ على زعماء المقاومة، وعدم انتقادهم أو محاسبتهم، مهما ارتكبوا من جرائم ومذابح وكوارث. جمال عبد الناصر أو صدام حسين أو معمر القذافي أو حافظ الأسد قديما، والآن خامنئي وبشار الأسد وغيرهما، كلما كان أكثر دموية وخطبه رنانة كان أكثر دعما للمقاومة في عرفهم.
برع القوميون العرب في إلقاء اللوم على المؤامرة، لتبرير كل هذا الفشل في النظرية والتطبيق، أعذار وقصص عن مؤامراتٍ كبرى ولوم للآخرين، مع أن السبب الرئيسي لكل ما حدث ويحدث للبلدان العربية هو ما ارتكبه حكامها من حماقاتٍ وفسادٍ واستبداد، بل إن نماذج مثل صراعات حزب البعث في سورية والعراق، أو صراعات "البعث" مع الناصريين تدلل على أن الانتماء للقُطر كان الطاغي على الانتماء للعروبة والوطن العربي، على الرغم من أن مصطلح الوطن العربي لم يعد دقيقا الآن، فهل أصبح وطنا للجميع، وهل أصبحت العروبة تسع الجميع، أم أن الهوية القُطرية هي الأقوى، ففشل العروبة في استيعاب كل العرب هو ما جعل بعضهم يتمسّك ويتعصّب لهويته القطرية، أو يبحث عن هويةٍ أكثر شموليةً، مثل حلم الخلافة والدولة الإسلامية.
كانت مشكلة الفوقية في تطبيق الوحدة والحلم المشكلة الكبرى، ففرْض نظام ما بالقوة والقهر على شعب آخر كان هو العامل الأكبر في فشل الوحدة بين مصر وسورية، كما فشل حزب البعث في توحيد العراق وسورية، وتحوّل الأمر إلى صراع بينهما، بالإضافة إلى الصراع مع الناصريين، وتحولت القومية العربية إلى مؤامراتٍ وانقلابات ومعسكرات، مع أن العروبة موجودة وأكثر قوةً وتأثيراً بين الشعوب، وبدون قرارات الحكام، فالعروبة بين الشعوب موجودة قبل عبد الناصر، توجد في الثقافة والفن والكفاح المشترك، وظهرت بقوة في دعم الشباب العربي بعضهم بعضا في ثورتهم ضد الاستبداد والاستعباد والظلم والفساد عام 2012 ليست بالحدود وليست بالقرارات الفوقية.
أتذكر حالنا في أثناء الثورة في تونس ثم مصر، كانت مشاعر العروبة الحقيقية فيّاضة، كان الشباب في تونس يتواصلون مع الشباب في مصر، وكان الشباب في مصر يتواصلون مع إخوانهم في فلسطين وسورية والأردن والعراق والبحرين. أحسّ الشباب العرب بعروبتهم مرة أخرى، هناك رابط يجمعهم جميعا، هناك حكّام حمقى مستبدون، يقبعون فوق صدور الناس والأوطان، ساهموا في تجريف كل الأقطار العربية وخرابها.
عانت القومية العربية، كأي قومية، من فكرة النرجسية والإقصائية، وكان ذلك سببا رئيسيا في نفور قطاعات كبيرة في المجتمعات العربية، وفي النزعات الانفصالية بعد ذلك، الأكراد وأيضاً الأمازيغ والنوبيون. لم يفكر بعض هؤلاء في الانفصال إلا بعد تجاهل ثقافتهم وتراثهم ولغتهم وحضارتهم القديمة. إنه الشعور بالخوف من اندثار اللغة والثقافة والموروثات تحت أقدام 
الجيوش القومية العربية التي تدّعي التميز عن باقي الثقافات. للأسف، لم يهتم مطبّقو الفكر القومي بأن تكون القومية العربية جامعةً ومتقبِّلة للقوميات والثقافات الأخرى المتداخلة التي عاشت على الأرض والمنطقة نفسها، وهو ما تسبب في النزعات الانفصالية، وبكل تلك الحروب والدماء، وهو أيضا ما دعّم فكرة قومية أخرى لقيت قبولا بعد فشل فكرة القومية العربية، وهو حلم دولة الخلافة والهوية الإسلاموية الذي سيزيل الحدود، ويفكك القطرية، ويدمج الجميع في هوية أخرى أكثر شمولا، لا تهتم باختلاف اللغات والثقافات.
بشأن مشكلة الديمقراطية، كثيرا ما أتساءل: لماذا لم تكن هناك تجربة واحدة للقومية العربية تحترم الديمقراطية وحقوق الإنسان؟ عبد الناصر والأسد وصدام حسين والقذافي، زعم كل منهم أن ما يفعله هو الديمقراطية الحقيقية، على الرغم من كل تلك المجازر والمظالم، هل كان للشعوب رأي في مصائرها؟ وهل اتعظ القوميون العرب من كل ذلك الفشل؟ أم أن المؤامرة هي السبب دائما كما يبررون؟
ويعود السؤال الدائم، متى يتم إنتاج نظريات جديدة عن العروبة والهوية العربية أكثر رحابة وتقبلا للآخر، وأكثر تقبلا للاختلاف من قبل؟ وكيف يمكن إنتاج مشروع عروبي جامع يراعي كل ما حدث، ويستفيد من أخطاء الماضي، ويراعي الهويات القطرية والحدود الجغرافية والاختلافات الثقافية والسياسية والاقتصادية، ويكون أكثر مرونةً وتطورا من أطروحات الخمسينيات والمدّ القومي؟ ومتى يتم الفصل بين القمع والاستبداد وعبادة الحاكم الفرد وجيشه من جهة وشعارات العروبة والمقاومة وتحرير فلسطين من جهة أخرى؟ ومتى يكون هناك إنتاج فكري، لتجنب كارثة غياب الديمقراطية في تطبيقات الفكر القومي، ونرى يوما أطروحات عملية لدمج الديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان "ذات الأصول الغربية" مع أطروحاتٍ عروبيةٍ حديثة تراعي التغيرات المجتمعية.
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017