الطاهر بن جلون مغربيّ أخيراً

الطاهر بن جلون مغربيّ أخيراً

29 مايو 2018
+ الخط -
لا نحبّ، نحن القراء الذين نحيا فوق جسور معلّقة بين ثقافتين، ولغتين، وعالمين، أو في الضفّة المقابلة، من يكتب عن تجربة ال- هنا، أو عن تجربة ال- هناك، بحسب ما هو متوقّع منه، أو مرْضيّ عنه، أي من الموقع الذي لا يقلق ولا يسائل، ولا يتّهم أو ينتقد، بقدر ما لا نحبّ الهجوم المجّاني الذي لا يخاطب الآخرَ، إلا بكونه عدوّا لدودا غير قابلٍ إلا للقتل والقتال. من هنا ربما انزعاجنا من كتّاب عرب فرنكوفونيين، أغلبيتهم من بلدان المغرب العربي، لا يتبنّون لغة الآخر فحسب، وهذا حق ومشروع، وإنما أيضا ثقافته وزاوية نظره إلى القضايا، وبالتحديد إلى قضايا بلدهم الأمّ، ربما سعيا وراء كسب الاعتراف بهم، والحلول في مكانةٍ مرئيةٍ على رقعة الأدب الروائي الفرنسي. أذكر في هذا المجال الكاتب الفرنكوفوني المعروف، المغربي الطاهر بن جلون، الذي نال اعتراف الاستابليشمانت الأدبي الفرنسي به، فنال جائزة كونكور (1987 عن "الليلة المقدّسة")، ونُشر في أفضل الدور الفرنسية (غاليمار)، وكتب في أهم الصحف (لوموند)،... إلخ.
وما يأخذه مواطنوه عليه، ونأخذ بعضه نحن أيضا، هو ذلك الانفصال عن شؤون بلاده، وهي عديدة وحاضرة وملحّة بشكل شبه يومي، وكتابته عن بلادٍ غير واقعية، موجودة في الخيال الغربي عن الشرق، حيث الصحراء ورمالها والسماء ونجومها والروايات الغريبة التي لا تخلو من سحرٍ لشخصياتٍ توقف الزمن بين يديها، فما عادت تنتمي إلى زمن أو مكان واضحين. في ذلك، يقول بن جلون (70 عاما)، مدافعا عن التهمة الموجهة إليه بملاطفة البلاط المغربي، وبالتحديد الملك الراحل الحسن الثاني الذي عُرف بقسوته وبطشه بمعارضيه، إن الملك أرسل إليه مستشاره أندريه أزولاي إلى باريس، حيث "عرض عليّ وزارة الثقافة، لكني رفضت. فقال لي أندريه: لا أحد يقول لا لجلالته، فأجبته، على عكسك أنت، أنا لا يُدفع لي لكي أقول نعم للملك".
اليوم، وبعد مضيّ 50 عاماً بالضبط، قرر الطاهر بن جلون فتح أدراجه السرية، والتحدث عن محنةٍ عاشها وهو في العشرين من عمره، حين شارك، طالبا في كلية الفلسفة عام 1965، في مظاهرة طلابية سلمية في الرباط، وقمعتها بالرصاص الحيّ شرطة الحسن الثاني. مساء ذلك اليوم، شارك بن جلون أيضا في اجتماع الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، فكان أن حلّت الشرطة الاجتماع، بعد أن سجّلت أسماء جميع المشاركين فيه. بعد مرور عام ونصف العام، تمّ استدعاء 94 طالبا إلى خدمة العلم في ثكنة الحاجب، حيث يتم حجز بن جلون وأسرُه مع رفاقه، من 17 يوليو/تموز 1966 إلى 28 يناير/ كانون الثاني 1968.
تحكي رواية "القصاص" عن سنوات سوداء عرفها المغرب تحت الحكم الديكتاتوري للحسن الثاني، والمعاناة التي أخضع لها الطلابُ في خدمتهم العسكرية الإلزامية التي كانت قصاصاً فرض على الذين شاركوا في المظاهرة السلمية، وأشبه بعقوبة سجنٍ حيث التحقير والأشغال الشاقة، وعنف الحرّاس الذين كانوا من أتباع الجنرال أوفقير الذي عهد إليه البلاط بإعادة الأمن والنظام، بأي ثمن. كان المخبرون كثرا، والذين حاولوا الفرار تم دفنهم أحياء.. "أكثر ما كان صادما هو العشوائية وانعدام العدالة. كنت أتمسّك بذاكرتي وبما قرأت في الماضي. وكنت أكتب سرّا". لقد تحمّل بن جلون الذي كان جزءا من النخبة الفرنكوفونية المغربية عامين من المعاناة من خلال قراءة "عوليس" لجيمس جويس. كان أخوه قد أرسله إليه لأنه كان الكتاب الأضخم الذي وجده، فكان يقرأه وهو يحلم بريجيس دوبريه المأسور في بوليفيا، وبوجوهٍ أليفةٍ من بينها خطيبته التي خسرها، والشاعر رامبو.
في أكثر من مقابلةٍ أجريت معه بمناسبة صدور روايته، قال الروائي المغربي إن هذه التجربة القاسية كانت دافعه إلى الكتابة، وإن الأمور اختلفت الآن بوجود الملك محمد السادس. كنا نتمنّى لو أنه قال إن الخوف كان دافعه إلى الصمت والتكتّم، طوال كل تلك السنوات، على كل ما كان يجري في بلاده آنذاك.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"