من يعرف سويدان؟

من يعرف سويدان؟

27 مايو 2018
+ الخط -
سويدان شاب أسمر اللون، قاتمه، فيه ملامح الصعاليك العرب، كما تصوّرته في دراستي سيرهم وبعض أشعارهم. هو ابن قرية منسية يمتد الطريق إليها من حلب نحو أربعين كيلومتراً جنوباً، بعضه معبد، وبعضه ترابي، أواسط ستينيات القرن الماضي.
في ذلك الزمن، كنت في تلك القرية معلم ابتدائية، وكانت المدرسة كلُّها غرفة واحدة تتسع في النهار للطلاب العشرين بصفوفهم المختلفة، وبقية النهار والليل كله، يتحول نصفها إلى غرفة نوم للمعلم الذي يشغل وظائف المعلِّم والمدير والمستخدم في آن.
في ذلك الزمن كانت لي أحلام واسعة كسعة هذا العالم الذي نعيش فوق نقطةٍ متناهية الصغر من أطلسه الذي لا حدود له ولا مدى. تستمد تلك الأحلام مشروعيتها من الشعارات الزاهية التي تلوِّن أذهاننا الغضّة، شعارات يطلقها البعثيون والقوميون الآخرون، إضافة إلى الشيوعيين طبعاً، ويتصارع الجميع بشأن ماهيتها، وسبل الوصول إليها، وأفضلية من يحققها.
في تلك المرحلة، كان سويدان يأتيني ليلاً لنأخذ وقتنا في التعليلة (السهرة) على ضوء مصباح الكاز، نتسامر حول كؤوس الشاي والسجائر التي ندرجها بأصابعنا على إيقاع تلك الأحلام بين متحدث ومستمع. وغالباً ما أكون متحدثاً يترجم لضيفه تلك الأحلام ويقربُّها إلى ذهنه. ويغرق سويدان في المشاهد التي أرسمها له بتشويق ومتعة، أعبِّد له الطرقات، وأضع عليها سياراتٍ أنيقة ومريحة، وأوسع له في المدرسة، لتتسع لتلاميذ أكثر من البنات والصبيان الذين أجعلهم بملابس موحدة، وأخصص لهم وجبة حليب صباحية، وكعكا طريا ينساب في الحلق بشهية. وفي الضحى، أقدِّم لهم كأس عصير ينشِّط أذهانهم ويحفزُّهم، وأقرّر لأهالي القرية جانب 
المدرسة مستوصفا يوزع الأدوية على من يحتاجها بالمجان. وأجعل في الطرف الآخر من القرية مكاناً لدائرة الإرشاد الزراعي. أعيّن لها مهندساً زراعياً يعنى بالمزروعات، وطبيباً بيطرياً يعالج أمراض حيوانات القرية من دجاج وماعز وأغنام وأبقار وحتى القطط والكلاب.
ولا أنسى، في غمرة أحلامي، أن أشيد برفاقنا السوفييت، الرفاق الكبار، كما كان يسميهم الرفيق خالد بكداش الأمين العام للحزب، فهؤلاء الرفاق سيكونون عوناً لنا على الإسرائيليين، والخلاص منهم كلياً خلال تحرير فلسطين (كان ذلك قبيل هزيمة حزيران 1967 بأشهر). وكنت أضيف، وأنا أرى الدهشة تلتمع في عيني سويدان، إنَّ الرفاق السوفييت يبنون اليوم الحياة الجديدة لهم وللإنسانية جمعاء، وحين أعتقد أنني قد انتهيت من غرس أحلامي في تربةٍ بكر، وصرت أقرب إلى القناعة بأنني اكتسبت رفيقاً جديداً، كان سويدان ينظر إليَّ ملياً بعد أن ينفث من دخان سيجارته غيمةً كثيفة، يتبعها بجرعة شاي مختمرة، ويشفع الاثنتين بآه طويلة، ليقول لي بعفوية، وبلهجةٍ بدويةٍ لا تنقصها البلاغة: "هرجك (حديثك) زين يا "أستاذ" لكن خاف إنه ما يصير"! ما يدفعني إلى التأكيد ثانية وثالثة.
وتمرُّ الأيام، وتكون الهزيمة الكبرى في الخامس من يونيو/ حزيران 1967، تعقبها صراعات حزب البعث حول شكل إزالة آثار العدوان، ويأتي حافظ الأسد بدعم دولي وإقليمي، مطيحاً رفاقه الذين يرفضون الحلول السلمية، وقرار الأمم المتحدة رقم 242، مستعيضين عنه بحرب تحرير شعبية متخيَّلة. وينقلب الشيوعيون بسياستهم تجاه الأسد ورفاقه الضباط مئة وثمانين درجة، بناء على رغبة الرفاق الكبار ورؤيتهم لأهمية القرار. ثم يأتي عام 1973 لتضيف حرب تشرين التحريرية/ التحريكية إلى إسرائيل قرىً سورية جديدة. ويعقب ذلك دخول الجيش السوري إلى لبنان، ليحصل ما يحصل من إبعاد لمنظمة التحرير الفلسطينية بعد مذابح تل الزعتر وصبرا وشاتيلا تحت سمع الجيش السوري وبصره، ثمَّ ليأخذ حزب الله توكيلاً خاصاً بالمقاومة. وبعدئذٍ، تأتي مجزرة حماة الرهيبة لتخلق شرخاً في المجتمع السوري، يسود بعدها العسكرُ وأجهزةُ الأمن المجتمعَ السوري، ويأخذ الفساد في الانتشار، مجففاً بقايا زيت التنمية، ثم يكون السقوط المدوي للاتحاد السوفييتي، مع صعود نجم رامي مخلوف وبقية أولاد العسكر والمسؤولين السوريين الذين مهَّد لهم آباؤهم سبل النهب المشروع للدولة والشعب.
في تلك الأجواء، يلوح لي (أنا الذي راح، بين الفترة والأخرى، يتأمل ما آلت إليه البلد مستذكراً أحلامه البريئة التي كانت) وجه سويدان بدهشته، ونفثة سيجارته، وجرعة الشاي الثقيل، ثم بنغمة عبارته المتشككة: "هرجك" زين يا "أستاذ" لكن خاف إنه ما يصير". وأسارع إلى كتابة رسالة اعتذار، لا عن وعود لم تأت فحسب، بل عن كل الخيبات التي آلت إليها تلك الأحلام، وأنشرها عبر زاوية لي على صفحات صحيفة النور، لأرسلها، بعدئذ، إلى سويدان، طالباً من الرسول أن يقرأها له.
الآن، وبعد نصف قرن وأكثر من حكم "البعث"، بقيادته الأسدية وعسكرها ومخابراتها، تعود صورة سويدان الذي لم أعد أعرف إن كان لم يزل في عالمنا، أم غادره حزناً وكآبة! تعاود 
صورته أفقي، لا لتعاتبني أو لتطلب اعتذاراً آخر فحسب، بل لتسألني عمَّا فعله الرفاق الكبار وأذنابهم بسورية، ولتجعلني أسرح مع ما قاله شارل فيرلو، (نسب قوله خطأ إلى أندريه بارو مدير متحف اللوفر)، هو مَنْ فكَّ رموز الألواح المسمارية الأوغاريتية، وعليها أول أبجدية في التاريخ الإنساني، قال: "على كل إنسان في العالم أن يقول: لي وطنان، وطني الذي أعيش فيه، وسورية". وكان الإسكندر المقدوني قد سبقه إلى كلام مثل هذا، مشغوفاً بجمال البلاد السورية عندما خيَّمت جيوشُه في أطراف أنطاكية عام 333 قبل الميلاد، وشرب من ماء نبع هناك، فقال: "ماء هذا النبع يذكّرني بحليب أمي، سورية وطني الثاني".
نعم، إنها سورية التي خاطب منها الإله الوثني، بعل، شعبه السوري قبل خمسة آلاف سنة بهذه الكلمات: "حطِّم سيفك، وتناول فأسك واتبعني، وازرع السلام، والمحبة في كبِد الأرض".
سورية التي لم يعطها الوريث الصغير حقها، ولم يكترث لمطالب شعبها المبدع، وجرى مع شعار: "الأسد أو نحرق البلد"، وكان له، بفضل الأجنبي الذي دعاه ومكَّن له، تحقيق الشعار بشقيه، إذ بقي على كرسيِّه، وحوّل سورية بدعم الأجنبي إلى خرابٍ طال الحجر وأنفس البشر، فغدا أهلها بين قتيل ومعاق ومعتقل ومهجَّر وسجين قَهْرٍ ويتم وفَقْدٍ، ويتناوش الأغراب أرضها اليوم، كل بحسب قدرته وحجم سطوته.
ولكن، هل سيطول الحال بسورية، أم أنها ستنهض، وسيلُمُّ السوريون أشلاءهم، ويقذفون بها كلّ نذل جبان ومعتد أثيم، ويبتسم لي وجه سويدان؟
1D1ED1EA-2F95-436E-9B0D-9EA13686FACD
محمود الوهب

كاتب وصحفي وقاص سوري، له عدد من المؤلفات والمجموعات القصصية