درس تاريخ

على مدرسة الثورة الثانوية القديمة المشققة الجدران، تلاحظ بقايا نسيج العناكب في أرجاء ذلك الفصل العتيق وجدران الفصل التي تركت عليها دفعات الطلاب المتوالين كل سنة، ذكرياتهم وشخبطاتهم الكثير،ة وكذلك تلك الكراسي المتهالكة.
يتدافع الطلاب إلى الفصل في هذيان غير مرتب، لقد حانت الحصة، إنها حصة التاريخ، والأستاذ محمود لا يسامح من يتأخر عن حصته ولو دقيقة واحدة.
ومع دخول آخر طالب، ظهر الأستاذ محمود بشعره الأبيض وهندامه البسيط، وهو يمشي في ترهل يتناسب مع سنوات عمره الخمسين ويحمل تحت إبطه حقيبته الجلدية. وما إن وقف في مواجهة الطلاب حتى قاموا في احترام شديد للأستاذ الذي حياهم بابتسامة شاحبة، وهو يشير بيديه قائلا في خفوت: اجلسوا ..اجلسوا.
يجلس على كرسيه، ويفتح حقيبته، وهو يقول، ومن دون أن يرفع نظره إلى الطلاب: اليوم سنتحدث عن الحضارة اليمنية القديمة.
الطلاب في سكون تام. أردف قائلا، بعد أن رفع نظره إليهم: هذه حضارة عريقة يا أبنائي.
قام إلى جهة السبورة، بعد أن تناول الطبشور من حقيبته، ليبدأ رسم خريطة اليمن الطبيعية ثم التفت إلى الطلاب قائلا: حضارة اليمن هي أقدم حضارات الأرض، وواحدة من الحضارات التي تركت بصماتٍ لا تنسى في التاريخ، وما زلنا نشاهد سد مأرب التاريخي الذي كان معجزة عصره.
وهو يشير بالطبشور الى موقع مأرب على الخريطة المرسومة، قائلا: هنا تقع مأرب و...
يقاطع كلامه صوت اصطكاك النافذة ذات الزجاج نصف المكسور على إطارها في يمين الفصل، فيلتفت الطلاب في حركة لاشعورية إلى مصدر الصوت، فيشير الأستاذ إلى أقرب طالب من النافذة، قائلا: اغلق النافذة يا حسين.
يمد حسين يده إلى مزلاج النافذة، لكنه لا يجده فيرد: يا أستاذ المزلاج مكسور.
الأستاذ: ثبّتها بأي شيء.
ثم يشير إلى الطلاب وهو يقول: نعود إلى موضوعنا.
وبدأ في درس التاريخ عن حضارة سبأ وحمير ومعين وما تلاها، مشيرًا إلى آثارها التي خلفتها تلكم الحضارات كسد مأرب وناطحات السحاب في شبام تريم وغيرها...
الطلاب في سكون واستماع، وآخر عبارة يقول فيها: وهكذا كان الأجداد اليمنيون صنّاع حضارة عظيمة جدًا.
ثم يوجه كلامه إلى الطلاب:
- هل من سؤال؟ يعم الفصل سكون تام، والأستاذ يرمق طلابه في سكون. يقول: حسنا كل واحد يخرج ورقة ويكتب انطباعه عما سمعه عن هذه الحضارة العريقة في جمل مختصرة.
بدأ صوت الدفاتر، وهي تفتح ليخرج الطلاب منها أوراقهم، وهمهمات الطلاب فيما بينهم: ماذا سنكتب؟ ومن أين نبدأ؟
شرعوا يدونون ملاحظاتهم والأستاذ يمر فيما بينهم، وهو يقول: اكتبوا بحرية وبرأي خاص، بدون أن تدونوا أسماءكم على الأوراق، المهم آرائكم.
يسأل طالب: أي حاجة يا أستاذ؟ يلتفت الأستاذ إليه قائلا: نعم، لكن طبعا ضمن الدرس.
يتابع الأستاذ مروره بينهم، وهو يقول في حماس: الحضارة اليمنية رائعة جدا يا أبنائي يجب أن تضعوا هذا في أذهانكم.
يعود السكون يطبق على الفصل المتهالك إلا من همهمات الطلاب وصرير أقلامهم حتى نهاية الحصة.
في المساء، يتفحص الأستاذ محمود الأوراق على ضوء الشمعة، بعد انطفاء الكهرباء، وهو يقرأ ملاحظات الطلاب بصوت مرتفع: "حضارة عظيمة في زمن قديم" و"نفتخر بهذه الحضارة"، و"تلك أيام مضت"...