سراييفو كفّت عن النداء

سراييفو كفّت عن النداء

26 مايو 2018
+ الخط -
أذكر جيداً ذلك اليوم في طفولتي، حين سمعت لأول مرة تلك الكلمة الغريبة: سراييفو. كنت طالباً في مدرسة إسلامية يديرها الإخوان، أطفال يلعبون ويُحدثون ضوضاء أزعجت المعلمة التي أتت لتنهرنا: "أنتو بتلعبو وأخواتكو في البوسنة بيتدبحوا؟!".
بدأت تسرد بأدق التفاصيل كيف يذبح الصربي "النصراني" المسلم بالسكين كخروف العيد، وكيف يتم اغتصاب أخواتنا. لم نفهم معنى "اغتصاب"، فشرحت أن هذا يعني أن يعرّوهن من كل ملابسهن، ويضربوهن، و"يضحكوا عليهم". وكان هذا صادماً بما يكفي لنكف عن اللعب ويسود الصمت التام.
كنت، في المرحلة نفسها، أستمع مراراً إلى "سراييفو تناديكم". كان هذا النشيد الجنائزي كافياً لتبكي أمي، وتخلع من يدها ذهبها لتتبرع به.
بعد فترةٍ، أتى أحد أقاربي بالكنز، شريط فيديو يحمل عنوان "بدر البوسنة". أذكر جيداً بعض المقاطع بالصوت والصورة. عبره سمعت للمرة الأولى رواية "المجاهدين العرب": حاربنا الصرب وانتصرنا عليهم، فتدخلت أميركا وفرضت اتفاق دايتون، لتمنع انتشار الإسلام في أوروبا. أذكر كيف شعرت بالغضب الشديد لهذه الفرصة الضائعة.
تدور الدنيا والسنوات، وفجأة أجدني هناك، في سراييفو التي تنادينا. أبتسم وأتمتم: ها قد جئت. .. تحدثت مع بوسنيين عديدين، وكان من اللافت أن الجيل الجديد لا يعرف أي شيء عن هذا التأثر العربي، يتعجبون كيف تعرف كل هذا عنا، ونحن لا نعرف عنكم أي شيء؟ لدى الجيل الأكبر رواية مختلفة، لا يحبون العرب، "لأنهم حين جاءوا هنا لم يكونوا يحاربون من أجلنا، بل من أجل أنفسهم، كانوا يرفضون اتفاقية دايتون التي جلبت لنا السلام"!
جوهر الحرب نفسه بالنسبة لهم أعقد من ثنائية الحرب الدينية البحتة، حتى لو كان هذا بالطبع جزءاً من الصورة، لكن الخلفية الأهم هي العداء على أساس عرقي بين البوشناق والصرب. أغلب المسلمين البوشناق لا يمارسون أي شعائر دينية، والخمور المحلية جزءٌ من ثقافتهم، والمحجبات أقلية، لكنهم، في الوقت نفسه، متمسكون جداً بدينهم، لأنه جزء من هويتهم العرقية. وقد تحول العداء العرقي إلى سياسي، بسبب رغبة البوشناق في الانفصال عن الاتحاد اليوغوسلافي.
جاءت "دايتون" بعد مائة ألف قتيل، لتضع حلاً هو الحد الأدنى بتأسيس نظام سياسي فريد: دولة بثلاث حكومات ومجلس رئاسي ثلاثي ليُمثل البوشناق والكروات والصرب. لا عجب هنا أن يكون نظاماً مشلولاً، يصعب فيه اتخاذ القرارات والإدارة الكفؤة.
من زاوية ثالثة، يمكن أن نعرف رواية المقاتلين، من مقاتل سابق في "القاعدة"، حكى عن صدمته من الاتفاق الظالم "أتذكر تلك الليلة، حين خلعت بدلتي العسكرية، شعرت حينها بأنني أنزع جلدي.. كنا نعتقد أن الجهاد في البوسنة سيستمر إلى الأبد. وما زلت أتذكّر كيف أقسم خالد الشيخ، وهو يبكي ويمسح دموعه، وقال: أقسم بالله إنني سأنتقم من أميركا". فيما بعد، سيصبح بالفعل المدبر الأول لهجمات "11سبتمبر".
اعترض قادة العرب على الاتفاق، وذهبوا إلى القيادة العسكرية البوسنية، ليحرضوهم على الانقلاب ضد القائد السياسي علي عزت بيغوفيتش! وفي أثناء عودتهم، تم إيقافهم على حاجز كرواتي وتصفيتهم من مجهولين. صُدم المقاتلون، وفكروا باقتحام المدينة القريبة، لكن قائداً بوسنياً أخبرهم أنهم هكذا سيقاتلون جيش البوسنة، قُضي الأمر وعليكم الرحيل، ومن لا يمكنه سنمنحه جوازاً بوسنياً.
ما زالت آثار الحرب معلقة فوق الرؤوس وظاهرة في جدران البنايات، لكن الجميع يتمنّى المستقبل، وهو الانضمام للاتحاد الأوروبي، وهذا فقط ما يطرح نقاش تعديل النظام السياسي الحالي.
من المثير للتأمل كيف تختلف الصورة حين ترى تفاصيلها، وكيف يكرّر التاريخ نفسه، وكيف يمتد تأثيره وألاعيبه. لعل أحداث "11 سبتمبر" لم تكن ستحدث، لو لم تكن حرب البوسنة. ولعل سورية لم تكن ستشهد ما شهدته، لو لم تكن حروب أفغانستان والعراق. ولعل مصير البوسنة في الحل السياسي غير المُرضي لكل الأطراف يصبح نموذجاً للحالة السورية. وبالتأكيد، ما حدث في سورية ليس النهاية، بل هو بداية لما لا نعرف.