حاشية على ظاهرة محمد صلاح

حاشية على ظاهرة محمد صلاح

23 مايو 2018
+ الخط -
بمشاركته في نهائي دوري الأبطال الأوروبي بعد أيام، يختتم النجم المصري محمد صلاح موسماً كروياً حافلاً واستثنائياً وتاريخياً بالنسبة له، سطّر في اثنائه اسمه بحروفٍ من نورٍ في تاريخ فريق نادي ليفربول الإنجليزي، بعدما تمكّن من تحقيق إنجازات كبيرة، قلّما يحققّها لاعبٌ في موسم واحد، وتحطيم سلسلة من الأرقام القياسية، توّجها بحصوله على جائزة "الحذاء الذهبي" باعتباره هدّاف الدوري الإنجليزي، وكان قد حصل قبلها على جائزة أفضل لاعب في الدوري الإنجليزي، حتى وصفته صحيفة ديلي ميل البريطانية بأنه "أصبح في منطقة خاصة به من دون منازع متجاوزاً العمالقة شيرر ورونالدو وسواريز".
واضطلع صلاح بدور كبير في وصول منتخب بلاده إلى نهائيات كأس العالم في روسيا، بعد غياب 28 عاماً. وقد صنعت محصّلة هذه الإنجازات من صلاح ظاهرة عربية، وعالمية، تستحقّ التوقّف والتأمّل، بعدما تحوّل بطلها إلى نموذج مُلهِم للشباب المصري والعربي، وصار مضرب الأمثال في الكفاح والقدرة على اجتياز العقبات، والتغلّب على التحدّيات.
بالطبع، ليس النجاح وليد المصادفة، ولا يعتمد على الموهبة وحدها، وإنما يتأتى بالجهد والعرق والمثابرة. وتوجد قاعدة بديهية أنّ هناك منظومة للنجاح والإبداع وأخرى للفشل والإخفاق. تتسم الأولى بمعايير صارمة، تقوم على احترام الجهد وتقدير الاجتهاد، وتعمل على صقل الموهبة الفردية وتنميتها، ودفع صاحبها إلى الارتقاء والنجاح وإطلاق قدراته الإبداعية. في حين تتسم الثانية بالعشوائية والارتجال، ولا تكتفي بإيقاف مسيرة الموهبة ووأدها وحسب، بل تكون أشبه بحجرٍ ثقيلٍ يشدّها إلى أسفل، حتى يُغرقها ويُجهز عليها كلياً، وهذا ما يؤكّده نموذج محمد صلاح، فقد صقلت منظومة النجاح موهبته، ودفعته إلى صدارة المشهد الكروي العالمي، وهو ما كان تحقيقه محلّ شكّ كبير، لو كان في منظومة أخرى فاسدة من شأنها خَنق الإبداع.

اللافت في محمد صلاح إلى جانب كفاحه واجتهاده، أنّه قادم من أعماق المجتمع المصري "العميق" بالمعنييْن، الاجتماعي والكروي، حيث جاء من الأطراف إلى المركز، ووصل بعدها إلى ذروة التألّق بتصدّره المشهد الكروي العالمي، فهو ابن قرية نجريج في مركز بسيون التابع لمحافظة الغربية في دلتا مصر. وقد بزغت نجوميته محلياً بعيداً عن الثنائية الكروية المركزية القاهرية التي تحظى بالأضواء (الأهلي – الزمالك)، حيث لعب في صفوف نادي المقاولون العرب، قبل انطلاق مسيرته الاحترافية، وكان يسافر من بلدته إلى القاهرة في أربع ساعات، متنقّلاً بين خمس مواصلات في رحلة الذهاب، ومثلها في الإياب، كي يتدرّب في صفوف فريقه.
هنا يتعيّن الحديث عن العلاقة بين كرة القدم والحِرَاك الاجتماعي الذي يمكن تعريفه بأنه انتقال الفرد من طبقة أو مستوى اجتماعي واقتصادي إلى طبقة أخرى، أو مستوى اجتماعي واقتصادي آخر، عبر تغيّر يطرأ على وظيفته ومستوى دخله، يُمكّنه من ارتقاء درجات السلّم الاجتماعي بإحراز مكانة اجتماعية، ويكون الحراك الاجتماعي صحياً، إذا كانت آلياته تقوم على الموهبة، والكفاءة، والاجتهاد، وقد يكون غير ذلك، إذا كانت آلياته تقوم على معايير الولاء والشِلليّة والمحسوبية.
وقد مثّل التعليم الرافعة الأساسية للحراك الاجتماعي في مصر في النصف الأول من القرن العشرين، حتى تغيّر الحال منذ نهاية السبعينيات، وصار التفوّق أو النبوغ وحده لا يكفي لتحقيق طموحات الفرد بتقلّده وظائف مرموقة، أو الالتحاق بمؤسسات "سيادية"، حيث طرأت على المجال العام مصطلحاتٌ جديدةٌ وغريبة، ذات رنين طبقي صارخ، لم تعرفها مصر مطلقاً، حتى في العهد الملكي وعصر "الباشوات". مثل ذلك المصطلح العجيب "غير لائق اجتماعياً"، وكان أبرز تجليّاته التصريح الشهير لوزير "سيادي" عن عدم أحقية ابن عامل النظافة للالتحاق بمؤسسته، وهو التصريح الذي أطاحه من منصبه، على الرغم من أن الرجل أقرّ بأمرٍ واقعٍ بالفعل منذ عقود طويلة، بعدما تحوّلت بعض المؤسسات إلى ما يشبه "الضيْعات" التي تتوارثها ثُلل مرتبطة ببعضها بشبكةٍ من القرابات، والمصاهرات، وكأنّها آلت إليهم كَابِراً عن كَابِر (!).
أمّا الأدهى أنّ معايير الطبقية و"الشلليّة" التي تقوم على تقديم أهل الثقة، وحتى ولو كانوا من معدومي الموهبة والكفاءة، قد امتدت إلى مجالات أخرى، بدءاً بالأوساط الأكاديمية والجامعية، ومروراً بالوظائف التقليدية، وانتهاءً بالأوساط البحثية، والإعلامية، والثقافية التي تحوّلت إلى جماعات مُغلَقة و"شِلل" متناثرة من نفرٍ يستوظفون ويستكتبون بعضهم بعضاً، شريطة أن يكونوا من أعضاء "الشلّة"، من دون مراعاةٍ لأبسط القواعد المهنية (ويستوي في هذا الإسلاميون والعلمانيون من المُثقفين)، بل وقد تتطرّف معايير الشللّية أحياناً، وتصل إلى درجة العصابية، في أُناس يتقعّرون ويتشدّقون أمام الملايين بشعاراتٍ، هم أبعد ما يكونون عنها.
وبقدر تراجع دور التعليم في الحراك الاجتماعي في العقود الثلاثة الأخيرة، بقدر ما برزت كرة القدم رافعة أساسية للحراك الاجتماعي، حيث مثّلت الكرة بوّابةً كبيرةً نقلت كثيرين من اللاعبين الموهوبين نقلة اجتماعية كبرى، خلال العقود الأخيرة، بعدما قَدِموا من أعماق المجتمع المصري، وصعدوا، بفضل موهبتهم، درجات السلّم الاجتماعي، حتى صاروا نجوماً من الذين يُشار إليهم بالبنان، ويتابع الملايين أخبارهم، ويتخّذهم الشباب قدوةً تُحتذى، ويُعدّ محمد صلاح المثال الأبرز في هذا الصدد.

المفارقة الطريفة واللافتة هنا أنّ عالمّ كرة القدم (وهي في نهاية المطاف لعبة رياضية) يقوم على منظومةٍ قيميةٍ ذات قواعد عادلة، ومعايير واضحة، على درجة كبيرة من الشفافية لآليات التقييم والترقي، على العكس من مجالاتٍ أخرى، من المفترض أنها ذات طابع "جادٍّ"، ولا تحكمها سوى السيولة والعشوائية والهلامية، فالكرة لا تعرف الاحتكار الأبدي للمشهد، ولا تعرف التوريث، أو الشِللية، ولا تعرف الطبقية أو عدم اللياقة الاجتماعية. لا تعرف سوى الموهبة والكفاءة، والجهد والعرق، والقدرة على العطاء. والمعيار العلني الفاصل فيها هو الملعب وحده، ومدى الإجادة فيه من عدمه، فمن أجاد استمرّ وارتقى، وحاز إعجاب الجماهير، ومن لم يُجِد توارى وانسحب، وربّما اعتزل في صمت، مهما كانت مؤهلاته أو إنجازاته السابقة.
تبقى نقطة مهمّة تنبغي الإشارة إليها، وهي مدى خطورة التوظيف السياسي والأيديولوجي لمحمد صلاح، وهو السَخَف الذي مارسه "المُؤَدلَجون" بصورة مُتعسِّفة ومُتنطِّعة في الفضاء الإعلامي المصري، على الرغم من أنهم من أجهل الناس بكرة القدم، حيث سعى كل فريق إلى توظيف نجاح صلاح لصالحه، وهو أمر من شأنه تحميله فوق ما يحتمل، وقد يودي بمستقبله الكروي، فالعقل والحكمة يقتضيان عدم إقحام الإنجازات الرياضية في الصراعات السياسية، لا سيّما إذا كانت صراعات بائسة، وعلى درجة كبيرة من العقم والإفلاس.

دلالات