الشجرُ لو حكى

الشجرُ لو حكى

22 مايو 2018

(رينيه ماغريت)

+ الخط -
يا الله، لماذا لستُ شجرة؟ هذي جملة أتأبّطها منذ عقود، أدوّرها، وأعيد استعمالها، وأتفيّأ بظلها، ولا أملّ من استحضارها في كل المناسبات. في حياةٍ ماضيةٍ، أو في حياةٍ قادمة، كنتُ، أو سوف أكون، شجرةً، هذا مؤكّد. شجرةٌ باسقةٌ أقدامها مغروزةٌ في التراب الرطب المخمليّ الدافئ، ورأسها طليقٌ متمايلٌ راقصٌ في الهواء. كأني من هذين العنصريْن فقط، ولا حاجة بي إلى سواهما. كلّما مررت بشجرة عانقتها، وألقيت رأسي على جذعها، ونعمت بحنانها، وأسررتُ إليها، قبل أن أستأنف المسير. الشجر هو أصلي. لذا تراني أتقن لغته، وأجلس في ظلّه، كلما ألمّ بي كمدٌ واكتئاب، إنه من أرواح أهلي، أولئك الذين منذ بدء الخليقة، قبل أن ينحسر عني الماء.
لكنّ الأشجار ليست كائنات وحدة وعزلة، كما كنت أراها. هي، مثلما تسنّى لي أن أكتشف، تحيا ضمن عائلاتٍ، تتكاتف وتتعاون في ما بينها، وتعقد حتى علاقات صداقةٍ قويةٍ، بحيث إن بعضها يقرّر الموت سويا. هذا ما أكّده الحرجيّ الألماني، بيتر فولليبن، في كتابه "الحياة السرّية للأشجار" الذي تصدّر قائمة أفضل المبيعات، وترجم إلى أكثر من 32 لغة، تدعمه في ذلك آراء رجال العلم وتجاربهم. أجل، الأشجار كائناتٌ اجتماعيةٌ، بإمكانها العدّ والتعلّم والتذكّر، وهي حتى تتصرّف كأنها ممرّض حين يقع أحد جيرانها سقيما، وترسل إنذارا حين تشعر أن هناك خطرا داهما، عبر شبكةٍ منتشرة من أنواع الفطر. ولأسبابٍ مجهولة، تقوم بمساعدة الشجر المقطوع منذ قرون أحيانا، من خلال تغذية جذوره بمحلولٍ سكّري يبقيها حيّة.
الشجر يعلّمنا الكثير. "اللغة العلنية تقتل الشعور، والناس عامة لا يفهمونها. أنا أستخدم لغةً إنسانية. حين أكتب أن الأشجار ترضع أطفالها، يفهم الجميع ما أريد قوله"، يقول المؤلّف الذي درس الشجر في الجامعة، قبل أن يعمل في إدارة الأحراج، حيث بدأ مسؤولا عن غابة مساحتها ثلاثة آلاف هكتار، على مسافة ساعةٍ من مدينة كولونيا (ألمانيا). في بداياته، قطع بيتر فولليبن مئات الأشجار المئوية، ورشّ هكتارات شاسعة بمبيداتٍ كيميائيةٍ كثيرة، ثم شعر بالسوء مما يفعل، فبدأ يدرس مقاربةً بديلةً للتعاطي مع الغابات، من خلال ترك الأشجار تنمو بطريقة برّية. بعد مضيّ عامين، استعادت الغابة عافيتها ومردوديتها العالية.
هذا ويخبرنا الحرجيّ أن الأشجار الصغيرة تنمو بسرعة، بنحو 45 سم كل فصل، غير أن أمهاتها تقف في وجه نموّها السريع، من خلال التكاتف في ما بينها، بحيث تحجب قممها المتشابكة بكثافة نور الشمس عن صغارها، فلا يعبر إلى الأرض أكثر من 3% من النور، وهو ما يكفي بالكاد لبقاء الشجيرات على قيد الحياة. التمرّد على هذه التنشئة القاسية مستحيل، التنشئة؟ أجل، يؤكد المؤلّف، من أجل خير الصغار ولمصلحة الغابة بشكل عام.
ولكن، ما الفائدة من عملية تقنين ضوء الشمس هذه ومن تأخير عملية نموّ الصغار؟ ألا يريد الأهل إجمالا أن يكبر صغارُهم، ليستقلّوا ويدخلوا في دورة الحياة؟ الإجابة بالنسبة إلى الشجر سلبية، والبحوث العلمية الأخيرة تعطيها في ذلك كل الحق، فالنمو البطيء خلال السنوات الأولى للشجرة ضروريٌّ، لكي تبلغ لاحقا سنّا متقدّمة. علم الغابات الحديث يسعى إلى عمر يتراوح بين 80 و120 عاما، قبل أن يتم قطعها واستثمارها، فهي حين تتمتع بجذعٍ صغير، مرصوصٍ، لا تتخلله كريات الهواء، تكون أكثر قدرةً على مقاومة الرياح والفطريات التي تنتشر بصعوبةٍ في الجذوع الصغيرة، وأن تفبرك قشرةً تطبب الجروح التي تتعرّض لها قبل أن تسوء.
وإذ يحين موعد رحيل الأمهات، فتمرض أو تنتهي حياتها، ثم تنكسر خلال إحدى العواصف، لأن جذعها ما عاد يحتمل أغصانها وقمتها البالغة أطنانا، يأتي دور صغارها كي يطلقوا عملية نموّهم على مداها، فتقوى الأوراق، وتتشبّع بأشعة الشمس، وتأخذ العملية هذه نحو ثلاث سنوات، قبل أن تبدأ المنافسة بين مَن مِن الجدد سيبلغ، صلبا ومستقيما، السماءَ.
يا الله، لماذا لستُ شجرة؟
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"