رسائل سياسية.. خبيثة

رسائل سياسية.. خبيثة

21 مايو 2018

مشهد من إعلان شركة الاتصالات التجاري

+ الخط -
أتحفتنا إحدى كبريات شركات الاتصال، جريا على عادتها في مطلع كل رمضان، بإعلان تجاري يروّج خدماتها بأسلوبٍ اعتبره كثيرون مزعجا ومسيئا، من حيث مضامينه السياسية التي لعبت على المشاعر الوطنية، مستثمرة، بشكل منفّر فج، الأحداث الجسيمة التي تعصف بفلسطين، بدءا من مجزرة غزة التي راح ضحيتها أكثر من ستين، وأزيد من ألفي جريح، وكذلك تنفيذ القرار الجائر العنصري المنحاز للظلم والعدوان بنقل السفارة الأميركية إلى القدس في أجواء احتفالية مثيرة للغضب والسخط والقهر. وقد عبّر ناشطون عديدون على مواقع التواصل الاجتماعي عن استياءٍ شديد من هذا التوظيف الساذج للمأساة في إعلان تجاري غير متقن على المستوى الفني، يستثمر من خلاله أوجاع أهلنا في فلسطين، وجرحهم المفتوح النازف في غزة، ليصنع منها وسيلةً لتحقيق أعلى الأرباح، كما رأى بعضهم أن الإعلان تضمّن إساءة معاملة للطفولة من خلال استخدام طفل في مشهدٍ، اعتُبر مهيناً بكل المقاييس، حيث الصغير يقف حزينا قبالة ترامب، الجالس خلف مكتبه، مخاطبا إياه: سيدي الرئيس.. مستجديا عطفه وحنانه بنبرة صوتٍ خفيضةٍ ذليلةٍ مستسلمة، وتعابير تفهم وندم بادية على وجه المجرم الذي مرّر الإعلان أنه المخلص والحل. وظهر كما وصفه أحدهم بصورة الذئب صديق العائلة.
وعلى الرغم من إخفاقات فنية كبيرة في الإعلان، من ناحية النص الركيك المباشر، فإن فئة من المتلقين اعتبرته مؤثرا وناجحا في نقل معاناتنا إلى العالم، متناسين أن الفئة المستهدفة هي الجمهور العربي. وكالعادة، ثار جدل كبير على مواقع التواصل بين مؤيد ومعارض للفكرة، نظرا لخطورة الدور الذي يلعبه الإعلان في تشكيل وعي الناس، ورفع مستوى التذوّق الجمالي لديهم، لا سيما الصغار منهم، وهو شكلٌ بصريٌّ فني إبداعي، يقوم على الإقناع، المفترض أنه مصممٌ ضمن أسس علمية، لا تنفي عنصر المتعة في ترجمة فكرة مختصرة من خلال مشاهد بصرية، ولا بد أن تحوي بعدا جماليا لجذب المشاهد، وهو سلاح فتاك في قوة تأثيره على الذوق العام، ولا مجال في عالم الاقتصاد سوى الاعتراف بالدور الأساسي الذي يلعبه الإعلان في الترويج والتسويق وتحقيق أعلى نسبة أرباح ممكنة.
من هنا، تتنافس شركات الإعلان بشكل محموم في طرح الأفكار المميزة، والاستعانة بأشهر نجوم العالم في حقول الرياضة والفن، ممن يملكون قدرةً على التأثير في المتلقي، الذين قد تصل أجورهم عن دقيقة إعلانية واحدة إلى ملايين الدولارات، تدفعها الشركة صاحبة المنتج أو الخدمة عن طيب خاطر، لمعرفتها بقيمة المردود الذي سوف يعود إليها مضاعفا. ويحقق لها سبقا على شركاتٍ منافسة. لذلك لا يجوز الاستخفاف بأي شكل بأثر إعلان تجاري سوف يتكرّر على مسامع صغارنا ليل نهار، ولا يجوز بأي حال التعاطي معه بحيادية، وهو عملية اتصال إقناعي، تهدف إلى نقل التأثير عبر رسالة إشهارية من معلن إلى مستهلك، بهدف إثارة دوافعه لشراء منتج أو استعمال خدمة، فما بالك حين يتضمن الإعلان رسائل سياسية، لا تخلو من خبثٍ، لا يجب المرور عليها من دون تدقيقٍ عميق، لكي نتحمل مسؤولياتنا في تجنيب أبنائنا تبنّي خطاب الذل المقترح في حضرة الرئيس، وتوعيتهم سياسيا ووطنيا بعمق مأساة الأهل في فلسطين المحتلة، وهو وضع إنساني لا يحتمل المزاودة وركوب موجة النضال الحر الشريف، عبر بيع أوهام رومانسية، لا تغني عن واقعٍ مؤلم يعيشه الفلسطيني على أرضٍ مستباحةٍ، وعاصمةٍ مقدسةٍ منهوبة (على عينك يا تاجر)، في أكبر عملية قرصنةٍ في تاريخ الإنسانية، قام بها السيد الرئيس، بمباركةٍ ضمنيةٍ من عربٍ معادين شعوبهم، يطرحهم الإعلان التجاري إيّاه مخلصين للأجيال القادمة، مصطحبين صغارا إلى فلسطين، مطلين على مشارف القدس، بعباءتهم النظيفة المهفهفة، مبشّرين بإفطار في القدس سوف يتم لهم بدون شك، من خلال تطبيع مشين يجري مع العدو الذي تبين أنه صديق قديم، بينما شباب غزة ونساؤها يبذلون أعمارهم، مواجهين عين العاصفة بنبل ورفعة، لكي لا يقف طفل عربي أمام السيد الأشقر، مستجديا بخنوع هبة الحرية.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.