"الليكود" الخليجي

"الليكود" الخليجي

21 مايو 2018
+ الخط -
كلُّ اتجاه يميني عربي في الثمانينيات والتسعينيات كنا نسميه "ليكودياً"، نسبة إلى حزب الليكود الإسرائيلي، بقيادة زعيمه مناحيم بيغن الذي قطع مسار "اليسار الإسرائيلي"، في أواخر سبعينيات القرن الماضي، إلى غير رجعة. بدت التسمية مجازيةً، أو مبالغاً فيها. فأيُّ شيء يجمع بين اليمين العربي (الرجعي) الحاكم وقواه السياسية و"الفكرية" بقائد الهاغاناه الصهيوني؟ هناك خلط و"تلبيس طواقي"، إرادي لا واقع فعلياً له.
ولكن تلك التسمية المؤدلجة، بشدة، كانت أقرب إلى نبوءةٍ (ربما غير واعية). نذير سوء لما تحبل به الأيام. هذه هي طبيعة النبوءة. أن تكون خليطاً من السحري والواقعي، الرغبوي، والحقيقي. لا تتنبأ النبوءة باستحالة. وإلا تكفُّ عن التصديق. لكي تُصدَّق النبوءة عليها أن تنبني من عناصر واقعية، قابلة للتصديق، وربما للتحقق أيضا. فأن تسمّي اليمين الرجعي العربي ليكوداً ففي التسمية عناصر واقعية، حتى ولو كانت المقارنة بين ضفتين متباعدتين، واقعياً. هناك ما يجمع اليمين الرجعي العربي (أصرُّ على هذه التسمية المستعادة من أدبيات الستينيات والسبعينيات) وأيّ يمينٍ في العالم. إنه الدوران في الفلك الإمبريالي. كانت هناك عوائق تحول دون بروز هذا "الليكود" العربي. كانت لا تزال دول الجُملة القومية (العراق، سورية) ذات سطوةٍ في الحياة العربية. كانت هناك الثورة الفلسطينية. كان اليسار العربي لا يزال له حضور في هذه الحياة المقبلة على انقلاباتٍ سياسيةٍ كبرى.
لن يتاح لـ "الليكود" العربي التمظهر إلا بعد حصار بيروت عام 1982، وهزيمة المقاومة الفلسطينية، ودخول العراق الصدَّامي في مغامراتٍ حربيةٍ مهلكة. لم يكن حصار بيروت ممكناً أصلاً، لولا الدور الخفي لليمين الرجعي العربي، الخليجي تحديداً، في التجريدة الإسرائيلية. عشنا، نحن الذين كنا هناك وراء سياج دبابات أرييل شارون هذا الدور في أدق التفاصيل: قطع المياه والكهرباء والإمدادات الطبية وما شابه عن بيروت الغربية. كان مندوب أميركا وإسرائيل، فيليب حبيب، يتلقى اتصالا، بطلب من الأمير فهد بن عبد العزيز، الحاكم السعودي الفعلي حينها، لكي يدير مولدات الكهرباء ويفتح صنابير المياه.
يستغرب بعضهم "الغرام" السعودي "المفاجئ" بإسرائيل. لكن هذا ليس مفاجئاً، فقد سبقه تمهيد عمره أكثر من عشرين سنة. بدأ ذلك في الإعلام السعودي في الخارج. تذكّروا أن أول لقاء تلفزيوني عربي مع نتنياهو كان مع محطة "أم بي سي" في أثناء مؤتمر مدريد. قبل ذلك، وبعده، فتح الإعلام السعودي في لندن نافذة للإعلام الساداتي، المُقاطع عربياً، على الحياة العربية. وجدت الأقلام الساداتية منبراً لها في صحف السعودية الصادرة في الخارج (الشرق الأوسط خصوصاً). من خلال هذه المنابر المكتوبة والمرئية، جُرِّبت الجرعات التمهدية، طويلة المدى، للتطبيع مع إسرائيل وتسفيه اليسار، والتشكيك، بحجة الواقعية، في قدرة العين على مواجهة المخرز.
حصل هذا بالترافق مع الانسحاب من "الفكرة" و"الرابطة" العربيتين، وراحت تدشن هوية بديلة: الهوية الخليجية. صار للخليج، المحمي أميركياً، هوية جامعة، على الرغم من تنافر هوياته الداخلية. تولت أقلام "ليبرالية" خليجية التنظير لهذه الهوية، المفارقة، للهوية العربية السابقة. فالأخيرة لا يأتي منها إلا الشر، إلا حلب الأموال، إلا القضايا المزمنة. ولكل من يستغرب حملات التشنيع على الفلسطينيين "الذين باعوا أرضهم"، و"يتبطَّحون في مرابع لندن وباريس الليلية"، ألا يستغرب. فعندما تمسخ "أهل القضية" (باعتبارهم "باعتها") فأنت تمسخ القضية نفسها. تصبح إسرائيل أقرب إليك من الفلسطينيين الذين "لم يفعلوا شيئاً" لقضيتهم. يذكّرني ذلك بقول محمود درويش لهؤلاء: يحبّون القضية الفلسطينية، لكنهم يكرهون الفلسطينيين!
لا يدهشني عداء كاتب، مثل تركي الحمد الذي قمعته السلطات السعودية مرات، للقضية الفلسطينية، فالعدو بالنسبة إليه اليوم إيران وليس إسرائيل، فبين الفلسطينيين من يفتح باباً لإيران. خلطة مسمومة، عجائبية، لا شيء فيها من التاريخ وفهمه، ولا من الواقع والقوى المؤثرة فيه. استدارة كاملة يقوم بها كُتَّاب خليجيون. لأنَّ كل شيء سيئ طاولهم جاءهم من العرب. وربما من القضية الفلسطينية، ومن الفلسطينيين "ناكري الجميل". لكن تركي الحمد (وأمثاله) ينسى أن تخريب العالم العربي جاء من سياسات نظام بلاده، من "إسلام" بلاده الوهابي الذي حقن جسد العالمين العربي والإسلامي بالتكفير والتطرّف والإرهاب. كان السيف الباتر الذي استخدمته أميركا لضرب بنى التقدّم والمدنية والنهوض في حواضر العالم العربي: من القاهرة إلى دمشق. هذه هي الهوية الخليجية. وهذه سرديتها المكوَّنة لخرافتها.
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن