هشاشة المؤسسات وفرصة الحل السياسي في ليبيا

هشاشة المؤسسات وفرصة الحل السياسي في ليبيا

21 مايو 2018

خليفة حفتر في استعراض عسكري في بنغازي (8/5/2018/فرانس برس)

+ الخط -
في موازاة الدعاية المفرطة لغياب الجنرال خليفة حفتر عن المشهد السياسي في ليبيا، ظهرت مؤشرات على إمكانية تطوير الحوار السياسي والانتقال السريع إلى الانتخابات، غير أنه، وبمجرد عودته، حدث تراجع واضح في التطلعات السياسية، وهو ما يثير النقاش بشأن طبيعة المؤسسات الليبية، ومدى قدرتها على تحمل أعباء التحول السياسي ومتطلباته، كما يثير أيضاً فرص حسم الصراع المسلح المفتوح منذ سنوات.
وقد اتسمت الاتجاهات الأولى لخطاب رئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، بالديناميكية والانفتاحية، حيث ركّز على أن تحقيق المصالحة الوطنية يشكل الأرضية الملائمة لدعم المسار السياسي. ومن هذه الوجهة، دعا إلى التواصل المباشر مع مجلس النواب، لتسوية المشكلات الانتقالية المزمنة، وتقديم التنازلات اللازمة للمساعدة في المضي نحو تعديل الاتفاق السياسي.
وعلى الرغم من تلاقي توجهات المجلس الأعلى للدولة مع السياق الإقليمي للحل السياسي، سواء في مبادرات دول الجوار أو مبادرة "اللجنة الوطنية المصرية المعنية بليبيا"، تعثرت محاولات التقارب مع مجلس النواب، لتعديل الاتفاق السياسي، والتحضير لإجراء الانتخابات، كما أن التحضير لعمليات عسكرية لدخول درنة يزيد من احتمالات تكرار تجربة الحرب في بنغازي، والتحول نحو الصراع المسلح. ولذلك، دعا إلى تدخل المجلس الرئاسي، لتوفير الحماية للمدينة ووقف الحرب.


بين "العدالة والبناء" و"الكرامة"
من مفارقات السياسة الليبية على مدى المرحلة الانتقالية، أن محاولات العزل السياسي لم تصل إلى غاياتها، فلم يكن قانون العزل السياسي (مايو/ أيار 2013) مؤثراً في السياسة الليبية، كما أنه على الرغم من توجهات خليفة حفتر ومؤيديه بوضع أعضاء حزب العدالة والبناء في قائمة إرهابية، يتم انتخاب خالد المشري، وهو عضو مؤسس وقيادي في هذا الحزب، لرئاسة المجلس الأعلى للدولة في 8 إبريل/ نيسان 2018. وتكشف هذه الظاهرة عن جانب مهم من خصائص الوضع السياسي في ليبيا، وهو أن فكرة الاستبعاد وتوجهاته تفتقر إلى تماسك سلطات الدولة، كما لا تتلاءم مع تنوع التركيبة الاجتماعية وتناقضها.
وإزاء وصول المشري إلى رئاسة مجلس الدولة، ظهرت وجهتا نظر، فهناك اتجاه يرى أنه يساهم في زيادة الصراع والاستقطاب، فيما تميل مواقف أخرى إلى أنه يمثل حلاً انتقالياً مقبولاً. لا يخرج هذا النمط ثنائي التفكيرعن السياق العام للسياسة في ليبيا، فمنذ اندلاع الثورة، ظلت الانقسامات ظاهرة اجتماعية وسياسية.
وفي هذا السياق، يمكن ملاحظة أنه على الرغم من قبول "العدالة والبناء" دخول حفتر في العملية السياسية، والاعتراف بدوره في مكافحة الإرهاب، سارت توقعات بأن العلاقة بين المشري وخليفة حفتر سوف تكون معقدة، بسبب عدم اعترافه بالاتفاق السياسي والجهات المنبثقة عنه، وهذا ما يلغي أي أساس للحوار حول سياسات الانتقال والحل السياسي. وبهذا المعنى، لا ترتبط توجهات حفتر بالتغير في مواقف حزب العدالة والبناء، فهي أكثر تطلعاً للبقاء خارج المسار السياسي الراهن.
وهنا يمكن القول إن تطلعات مجلس الدولة للمصالحة تلقى قيوداً لا يمكن تجاهلها، فمن جهة، يعد انتماء المشري إلى الإخوان المسلمين (حزب العدالة والبناء) من أهم هذه القيود، حيث لا يشكل خياراً مفضلاً لإسلاميين آخرين. ومن جهة أخرى، ارتكز المشروع السياسي ـ العسكري لفريق الكرامة على قاعدة استبعاد أي دور لجماعة الإخوان المسلمين، وتصنيفها منظمة إرهابية.


الحوار بين مجلس النواب والأعلى للدولة
يكشف الترحيب السريع لرئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، بدعوة المشري إلى عقد لقاء مشترك عن محاولة لتأكيد استقلال قرار المؤسسات الليبية، واستباق أي تدخلات إقليمية. ويمكن أن يكون هذا النمط متماثلاً مع اجتماع مالطا في ديسمبر/ كانون الأول 2016 بين رئيسي مجلس النواب والمؤتمر الوطني، حيث كانت هناك توجهاتٌ لانعقاد الحوار تحت مظلة وطنية (الحوار الليبي ـ الليبي). وبهذا المعنى، تتشكل محاولات لتوسيع دور السلطات الليبية في تقرير الخيارات الانتقالية، وتجاوز الخلاف بشأن العلاقة بين المؤسستين، وقد كشف لقاء الرئيسين في المغرب عن وضوح الرغبة في تنمية الحوار على مستوى المؤسسات الوطنية، حيث كان التأكيد واضحاً على انعقاد اللقاءات من دون شروط مسبقة، والاستعداد لتقديم التنازلات اللازمة لدعم المسار السياسي. غير أن ثمة تحدياً آخر، هو أن نجاح لقاءات الرئيسين كان يرتبط بمدى تحرّرهما من القيود الداخلية والإقليمية، بما يتيح لهما القدرة على المضي في الحل السياسي. ولذلك لقيت مناقشات محادثات صالح والمشري تساؤلاتٍ تتعلق بقدرة المجلسين على التصدّي لخمسة ملفاتٍ أساسية، منها تشكيل حكومة موحدة، وإنجاز القوانين المتعلقة بالانتخابات، وكذلك الوضع الاقتصادي، وتوحيد المؤسسات السياسية والعسكرية، ومحاربة الإرهاب.
وعلى الرغم من التطور النوعي في خطاب المجلسين، فبعد عودة حفتر، انهارت محادثات "الرئيسين" في المغرب، واعتبرها رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، غير رسمية، كما تراجعت فرص اللقاء مع رئيس المجلس الأعلى للدولة. وهنا تبدو أهمية السياق السياسي ـ الاجتماعي في تشكيل البيئة الحاضنة، ومدى توفر فرص بناء إطار سياسي يحمي السلطة التشريعية في ظل تفاقم انتشار السلاح وفوضى الحوار السياسي.

ميثاق شرف
على الرغم من تواضع مساهماته، يمكن أن يشكل مشروع "ميثاق شرف العمل السياسي الليبي" أرضيةً مشتركة للخروج من الأزمة، فقد ظهرت اتجاهات ميثاق الشرف السياسي، لتؤكد على احترام نتائج الانتخابات والتداول السلمي للسلطة، كما تضمنت مسودة الميثاق المبادئ الأساسية لإعادة بناء الدولة، على أساس الفصل بين السلطات وسيادة القانون والتعدّدية الحزبية.
وعلى الرغم من طبيعة الحوار غير المباشرة، فإن تنوع الأحزاب السياسية المشاركة يساعد في توفير القابلية لمناقشة كل المقترحات المختلفة، بما فيها الفيدرالية، غير أن الوصول إلى هذه يواجه عقبة تردّد الأحزاب الليبية في التلاقي حول أجندة مشتركة، وهو ما كان عاملاً أساسياً في عدم تبني أحزاب كثيرة للمقترحات الواردة في مسودة الميثاق، واعتبارها مجرد مشاورات غير رسمية.
وعلى الرغم من عدم صدور الميثاق بشكل رسمي، كانت جبهة النضال الوطني أكثر حدّة في التأكيد على عدم مشاركتها في الأعمال التحضيرية، واتخذت مواقف نقدية تجاه غالبية المشاركين، فيما ذهبت مواقف التحالف الوطني إلى توضيح أنه لم يصدر بصورة نهائية. وهذا النمط من التردّد في المضي نحو الحوار بشأن ميثاق الشرف هو بحد ذاته مثير للجدل، فالميثاق لا يعدو كونه مجموعة مقترحات بشأن الدولة المدنية، والقبول بتنوع الأحزاب السياسية.
وفيما يدور الجدل بشأن ميثاق الشرف، تدور مناقشات "الملتقى الوطني الجامع" باعتباره صيغة اجتماعية، تحت رعاية "مركز الحوار الإنساني"، وهي صيغة قريبة من الملتقيات التي جرت في النصف الثاني من العام 2013، وكان هدفها مناقشة سياسات الانتقال ما بعد المؤتمر الوطني العام، حيث بدت طبيعتها التعبوية أكثر منها الساعية إلى حلول سياسية. ولذلك انتهت نتائجها بدخول البلاد في أزمةٍ سياسية وحرب أهلية.
وإذا ما نظرنا إلى تجربة الحوار الوطني تحت مظلة الأمم المتحدة، ولقاء رئيسي مجلس النواب والأعلى للدولة، يتضح أن سياسات الحوار أو التفاوض تتسم بحالةٍ من التشتت والصراع، حيث يساهم تعدد المسارات في زيادة التناقضات، ليس فقط بسبب اختلاف جهة الرعاية، ولكن أيضا بسبب اختلاف مستوياتها المحلية والوطنية، فبينما يركز الملتقى الوطني على استطلاع الرغبات المحلية، وهي عملية تأسيسية شاقّة، لا تتناسب مع وجود الانقسامات الاجتماعية والحرب الأهلية، تنخرط الحوارات الأخرى في البحث عن حلولٍ عاجلةٍ للأزمات على المستوى الوطني.

دعم المصالحة
وعلى الرغم من تنافر البنى السياسية والأمنية، توفر القدرات الذاتية للمكونات الليبية فرصةً للانتقال نحو التسويات السياسية، على اعتبار أن تشتت السلطة، وفقدان السيطرة، كما يحمل في طياته عيوب غياب المؤسسة القوية، فإنه يضمن عدم الانفراد بالقرار السياسي، وهذا ما يضمن وجود المساحات المفتوحة لكل الفواعل السياسية للقيام بدور سياسي. هنا، تبدو أهمية العامل الخارجي في احتواء النزعات الصراعية وضبطها. وفي هذا السياق، يبدو من المحتمل أن تساهم تحقيقات محكمة الجنايات الدولية في توفير الحد الملائم من الردع عن ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان والقتل خارج القانون، لكنها ليست كافيةً لدعم خطة الأمم المتحدة لوقف الصراع ودعم الحل السياسي.

كما تمثل المصالحات الجهوية والقبلية إسناداً لتلاقي المؤسسات الدستورية. ويلقى هذا الجانب أهمية خاصة، باعتبار أن تدخل المجتمع يؤدي لمنع الفوضى والتصدّي للحرب الأهلية، فكما يشكل المجتمع البنية الأساسية للاستقرار، فإنه يعمل رافدا للمصالحة والتقارب السياسي. وخلال الفترة الماضية، ظهر اتجاه عام إلى المصالحات بين المدن والقبائل في المنطقة الغربية، لم تقتصر على مصراتة والزنتان، بل دخلت مناطق أخرى لتسوية المشكلات العالقة، كإطلاق سراح المعتقلين، والعودة الآمنة للنازحين والمهجرين في الداخل والخارج، بالإضافة إلى مكافحة الجريمة. وتؤسس هذه الظاهرة لمحاكاة سلمية، يمكن أن تجد طريقها إلى مناطق أخرى.
كما يشكل تباطؤ خليفة حفتر في تحقيق إنجاز عسكري، أو سياسي، تحدياً لداعميه، فقد ترتب على ادعاء غياب حفتر فترة قصيرة ظهور مؤشراتٍ على عدم تجانس البنية السياسية والاجتماعية الداعمة لـعملية الكرامة التي يقودها، أهمها الاهتمام المبالغ في التسابق على اختيار القائد العام الجديد للجيش. وبهذا المعنى، يمكن القول إنه على الرغم من عودة حفتر، تبدو إمكانية تراجع أهمية المنصب، وخصوصاً مع ظهور مقترحاتٍ بإلغائه، وإخضاعه للسلطة المدنية. كما بدأت تحركاتٌ لتلاقي الجهات التشريعية لتسوية المعضلات السياسية، من المحتمل أن يفسر هذا الوضع جانباً من الدوافع وراء حسم ملف درنة، بهدف تطوير الصورة الذهنية عن قدرة "الكرامة" على تماسك قدراتها العسكرية.
وبشكل عام، يمكن القول إن استمرار المسارين، السلمي والعسكري، من العوامل التي تساهم في تكوين الفوضى السياسية، ليس فقط بسبب غياب الضمانات الكافية لحماية العملية السياسية والانتقال إلى الانتخابات، ولكن لارتباط الصراع المسلح باستدعاء التدخلات الخارجية. ولذلك، تبدو التوقعات ضئيلةً في قدرة المصالحات الاجتماعية والديناميات الداخلية للانخراط في عملية سياسية جادة ومستقلة، وبعيدة عن السيطرة الخارجية. وهنا يمكن ملاحظة أن الانقسامات الداخلية صارت أكثر ارتباطاً بالعوامل الخارجية، وهو ما يشكل نوعاً من القيود الاستراتيجية، ليس فقط على التحول السياسي، ولكن على مدى الاستقلال الذي سوف تحصل عليه الدولة والمجتمع.
5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .