لماذا يتعسّر خروج صفقة ترامب؟

لماذا يتعسّر خروج صفقة ترامب؟

19 مايو 2018
+ الخط -
أثبتت تطورات الأشهر القليلة الماضية أن قضية فلسطين عصيةٌ على الذوبان أو الإنكار. وقد نجح الرئيس الأميركي دونالد ترامب بقراره التسليم بالقدس عاصمةً للاحتلال الاسرائيلي في التسبب بيقظةٍ دوليةٍ شملت مختلف أرجاء العالم، تدين هذا القرار الأرعن، وترى أن القدس الشرقية مدينة محتلة منذ العام 1967، وأن القرارات الدولية المتعاقبة تشهد على هذه الواقعة. وقد عبّر عن هذا الواقع رجلٌ مقدسي من عامة الناس، قال آنذاك (في ديسمبر/ كانون الأول الماضي) إن إسرائيل تفرض سطوتها على المدينة من دون أن تحظى بشرعية، وقرار ترامب لا يضيف ولا يغيّر شيئاً.
وقد جاء الاحتفال بالغ السماجة بافتتاح السفارة داخل القنصلية الأميركية حفلة تكاذبٍ بين إدارة ترامب وحكومة بنيامين نتنياهو، فبينما تشجع هذه الإدارة حكومة الاحتلال على الهزء بالقانون الدولي، وطرحه جانباً، فإن الأخيرة تزعم لنفسها أن استيلاءها على القدس بات يحظى بمباركة الدولة العظمى، وأن هذه المباركة تسري مسرى القوانين. لكن العالم كله كان يقف على الجانب الآخر، إذ ليس في الأمر مما يمكن أن يوصف بالحنكة أو البراعة، فما جرى مجرد حفل استعراضي مقيت لأعمال اللصوصية، يُحييه سياسيون (بعضهم مستجدّون وهواة) فاقدون للحياء، في زمن خواء السياسة الدولية وانحطاطها.
وإذا كانت دول عديدة، بما فيها الهند والصين، تتعامل مع تل أبيب على مستويات تقنية 
وتسليحية، فذلك يدلّ على نزعة براغماتية متضخمة تتفشّى في جنبات العالم، من دون أن تجنح الدولتان الآسيويتان الكبيرتان، أو غيرهما، إلى شرعنة الاحتلال البغيض الذي جاء في العام 1967، ليضاعف نكبة الفلسطينيين، من دون أن يفقد هؤلاء تعلقهم التام بوطنهم الأم. إن نحو نصف عدد شعب فلسطين (ستة ملايين من أصل 12 مليوناً) يقيم على أرض الأجداد والأحفاد في فلسطين الانتدابية وفي الضفة الغربية وفي قطاع غزة. ولعل هذا التجذّر في الوطن هو بعض ما حدا بالمهاجر الروسي، أفيغدور ليبرمان الذي يتولى حقيبة الدفاع في حكومة نتنياهو، ليتمنّى لو أن إسرائيله قد نشأت في مكان ما من أوروبا بعيداً عن الشرق الأوسط، علاوة على ما شهده من مسيرات العودة الكبرى في قطاع غزة، نحو الحدود التي اصطنعتها إسرائيل، والتي تحرم لاجئين من العودة إلى ديارهم، وتمنع أبناء غزة من التواصل مع من بقوا من شعبهم. لقد تزامنت مسيرات العودة التي ضمت نساء ورجالاً من مختلف الأعمار مع الاحتفال الإسرائيلي الأميركي في القدس، وقد نجح المنتفضون في توجيه صفعة احتقار للمحتفلين في القدس، مع تذكيرهم بأن القدس تقع في قلب القضية الوطنية، لكن هذه القضية لا تختزل في المدينة الفلسطينية المقدسة، فثمّة لاجئون يتوارثون حق العودة جيلاً عن جيل، وهم مصممون على العودة إلى ديارهم التي اقتلعوا منها في العام 1948. ولا تجد تل أبيب ما ترد به على هذا المطلب المحق (كل لاجئو الصراعات والحروب لا يلبثون أن يعودوا..) سوى في الارتداد إلى جوهرها الفاشي والعنصري الذي قامت على أساسه، بإنكار وجود الضحايا وإنكار حقوقهم الثابتة. تماماً كما فعلت النازية في إنكار حق يهودٍ وغير يهودٍ في الوجود. وكما تفعل قطعان مستوطنين وملتاثين دينياً في استباحاتهم المتكرّرة دار عبادة كبرى تخص أتباع دين سماوي آخر (المسجد الأقصى). وبهذا، تبرهن الشرائح الأشد تطرّفاً والتي يُعبّر عنهم سياسياً، ويمثلها نتنياهو، أن التطرّف الديني ركن أساسي في الصهيونية القديمة والمتجدّدة، وأن تنظيماً مثل "داعش" قد نشأ في بيئةٍ سياسيةٍ شرق أوسطية ترعى التطرّف والإرهاب رسمياً. وكما هو حال اليمين الأشد تطرّفاً الحاكم في تل أبيب الذي يناصب كل ما هو غير يهودي العداء الأعمى، والذي لا يتورّع عن قتل عشرات الفتيان والشبان المحتجين في مشهدٍ بالغ الوحشية والانحطاط، ويعتمد سياسة الاستئصال المادي والسياسي والمعنوي بحق الأغيار، ويرى في ذلك ما يبرهن على سعيه إلى "السلام".
وبموازاة ذلك، لا تنجح سياسة الرئيس ترامب الشرق أوسطية سوى في الكشف عن ارتجاليته المفرطة، وغربتها التامة عن حقائق السياسة في منطقتنا، فهو بسلوكه الطائش حيال مسألة القدس أثار حفيظة حلفاء أميركا في المنطقة، بل إنه تسبب في ما يشبه تصحيحاً لمماشاة أميركا. وكما دلت على ذلك نتائج القمة العربية أخيراً في الظهران، والمواقف التي صدرت هنا وهناك تدين بشدة نقل السفارة، وترفض هذه التطورات الشاذّة والشائنة. ولهذا يتعسّر خروج 
صفقة ترامب المسماة بتفخيم مُفرط "صفقة القرن". وتتسّرب أكثر من صيغة لها من دون أن تفلح واشنطن في إثارة أي اطمئنان، أو استعادة بعض الثقة بها، أو أن يعيد الجانب الفلسطيني الاتصال معها. وسيظل الأمر على هذا الحال إلى أن تعيد الإدارة حساباتها حيال القدس، والقرارات الدولية المتعلقة بالأراضي المحتلة، كما فعلت بمراجعة موقفها من الانسحاب الذي كان مزمعاً من سورية. وحتى تدرك هذه الإدارة، بصورة ما، أن التوسعية الإيرانية تتغذّى من التوسعية الإسرائيلية، والعكس بالعكس، وهو ما يهدّد المنطقة بصراعاتٍ تدميريةٍ مفتوحة، ما يُملي تدخلاً دولياً إيجابياً يطفىء جذوة الصراعات، ويكفل الحقوق والمصالح الأساسية للشعوب بغير انتقائيةٍ ذات منحىً عنصري، وضمن منظورٍ يستند إلى الشرعة الدولية، لا إلى شرعة الغاب التي تعتمدها دولٌ شتى، في مقدّمها الدولة العبرية، وبعض من يشاركون في اجتماعات أستانة الكازاخستانية، وتلك الدولة المسماة جمهورية ميانمار الاشتراكية في جنوب شرق آسيا، ودول أخرى صغيرة وكبيرة في كوكبنا الأرضي التعس، وهي تطوراتٌ ترافقت مع حملة ترامب الانتخابية، ثم مع صعوده إلى البيت الأبيض، وعلى وقع دعواته لمكافحة الهجرة والمهاجرين من بلدانٍ بعينها، وينتمون إلى دينٍ بعينه، ما أثار عليه في الداخل الأميركي، وفي الخارج، حملة استهجانٍ واسعة.
فيما يبقى في الأثناء درسٌ على جانب من الأهمية، من الأفضل أن لا يتأخر الرئيس ترامب بالوقوف عنده، ومفاد هذا الدرس أنه يستحيل معالجة قضية احتلال، بصورة عادلة وشافية، من خلال الالتصاق بمن يقوم بالاحتلال، فهذا يخالف طبيعة الأشياء ومنطق الأمور، فالعلاج يتم تحضيره عادة بعيداً عمن تسبّب بالمرض، وعمّن سهر على إشاعته في بيئةٍ واسعةٍ، ومنذ سبعة عقود طويلة ومريرة، هي عمر الصراع الفلسطيني العربي/ الإسرائيلي المسمّى أزمة الشرق الأوسط.