لافتات فارغة المضمون

لافتات فارغة المضمون

19 مايو 2018
+ الخط -
تناولت "بي بي سي عربي" فعاليات الانتخابات النيابية اللبنانية من زاويةٍ مختلفة، إذ تساءلت عمّا إذا كان اللبنانيون سينجحون في زيادة عدد النساء في البرلمان أم لا. وهو ما أثار معلقين تساءلوا عمّا إذا كان الهدف مجرّد زيادة عدد النساء فحسب، واعتبار ذلك تقدّما ونجاحا يستحق التهنئة، وما عدا ذلك إخفاقا. ولماذا لجأت "بي بي سي" إلى هذا المعيار، بدلا من الحديث عن معايير أخرى، مثل الكفاءة والاستحقاق، بغض النظر عن الجنس، فضلا عن تناول التحدّيات الأخرى التي تواجهها الديمقراطية في لبنان، والتي تحدّ من قدرتها على تمثيل كل أطياف المجتمع، وتقديم فرص متساوية للجميع.
وتعد هذه التغطية نموذجا للتناول السطحي الفارغ من المضمون للقضايا والأحداث، فما أهمية دخول عدد كبير من النساء إلى البرلمان اللبناني في دولةٍ تعاني مشكلات ضخمةً، وتخضع لمحاصصة طائفية لا تفرّق بين رجالٍ ونساء حتى في انتخاباتها؟ وذلك كله في ظل تراجع دور الدولة على حساب صعود دور المليشيات، وأبرزها بالطبع مليشيا حزب الله التي تسيطر فعليا على البلاد. فما هو التغيير الكبير الذي سيحدث، إذا نجحت النساء بنسبة كبيرة؟
يذكّر هذا التناول بما قاله أحد كبار منافقي نظام حسني مبارك، قبل ثورة يناير بأشهر، عندما اعتبر أن وجود عدد كبير من النساء في البرلمان المصري دلالة على أنه سيكون برلمانا 
معارضا، وكانت الانتخابات في ذلك الوقت قد شهدت تزويرا فجا، اعتبر أنه الأكبر في تاريخ الانتخابات في مصر، كما اعتبرت تلك الانتخابات أحد الأسباب المباشرة لقيام الثورة بعد ثلاثة أشهر فقط. وهي الحجة البائسة نفسها التي حاول منافقو نظام السيسي تمريرها عن البرلمان الحالي، صنيعة الأجهزة الأمنية والسيادية، بالقول إن نسبة الشباب والمرأة داخل البرلمان هي الأعلى في تاريخ مصر، على الرغم من أنه أسوأ برلمان في تاريخ مصر أيضا من ناحية التبعية الكاملة للسلطة، والموافقة على كل أفعالها، وكان مشهدا مقزّزا أن يقف رئيس البرلمان، وهو يتلو خطابا يمجّد في رئيس الدولة، الذي من المفترض أن يكون رقيبا على أفعاله، ويرفعه إلى مصاف الآلهة.
على هذا المنوال، يمكن أن نسير في الحديث عن قضايا أخرى، تعاني من السطحية وفراغ المعنى، ومنها مثلا الحديث عن ضرورة تمكين الشباب، لأنهم بالضرورة سيكونون أفضل من كبار السن. وانتشر هذا الخطاب بصورة كبيرة، خصوصا بعد الثورات العربية التي رفعت شعار "آن الأوان ترحلي يا دولة العواجيز"، لنكتشف أن للأمر أبعادا أخرى أعمق، فها نحن نجد أمامنا نموذج ولي العهد السعودي "الشاب" الذي يحمل الأفكار والقناعات نفسها التي حملها من سبقوه تجاه قضايا الحريات والديمقراطية والإصلاح السياسي وحرية الرأي والتعبير، فقد سجن كل من خالفه، حتى امتدت الاعتقالات لأسباب تافهة، مثل انتقاد هيئة الترفيه (الشيخ عبد العزيز الطريفي)، أو كتابة تغريدة تتمنى إصلاح العلاقات بين السعودية وقطر (الشيخ سلمان العودة)، وغيرهما مئات من الأسماء التي غيبت خلف القضبان، من دون أن تعرف ماذا فعلت. والجدير بالذكر أن بن سلمان نفسه يستخدم ورقة "تمكين النساء" من أجل تسويق نفسه ومشروعه الداخلي على المستوى الدولي، فنجد قراراتٍ مثل السماح للمرأة بقيادة السيارة، وتعيين نساء في مناصب قيادية تجليات لتلك السياسة. وقد حاول رؤساء ما قبل الربيع العربي توريث المنصب لأبنائهم بالحجة نفسها، وهي أنهم شباب صغار السن، وسيمثلون تغييرا كبيرا وتمكينا للشباب، لنجد أنهم لا يختلفون، في تخلفهم وإجرامهم وطغيانهم، عن آبائهم، بل وفاق بعضهم إجرام الوالد، مثلما فعل "الدكتور بشار الأسد" الذي ورث والده، ولم يكن يتعدى من العمر 34 عاما، ليتم تعديل الدستور السوري في دقائق، لتمكينه من تولي الحكم، ليقتل مئات الآلاف من شعبه، ويتفوق على والده الذي قتل عشرات الآلاف فقط!
ولا يتسع المجال هنا لذكر عشرات الأمثلة الأخرى، مثل الحديث عن أن مصر "دولة مدنية" في الدستور الذي كتب بعد الانقلاب العسكري مباشرة! وهو دستور تحدث أيضا عن ضرورة إعطاء أهالي النوبة "حق العودة" إلى قراهم التي هجروا منها منذ عشرات السنين، في محاولةٍ سطحيةٍ لإعطاء الانقلاب صفة المدافع عن الأقليات، لكن الواقع جاء غير ذلك، وسجن النظام عشراتٍ من النوبيين الذين تظاهروا للمطالبة بذلك الحق المنصوص عليه في دستور الانقلاب ذاته. كما اقتطع السيسي 17 قرية نوبية من أراضي العودة، بعد تصنيفها مناطق عسكرية.
إحقاقا للحق، لا تُمارس هذه الحيل الفارغة فقط في وطننا العربي، بل هي طريقة عالمية، فقد تم تسويق الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، باعتباره شابا هو الآخر، وامتد الأمر إلى 
المقارنة بين شبابه وزواجه من امرأة تكبره بأكثر من 20 عاما، لنجد أنه، في النهاية، لا يختلف عن الآخرين في سياساته اليمينية الرجعية في الداخل، والاستعمارية الإمبريالية في الخارج. كما تم تسويق رئيس وزراء النمسا الجديد، سيباستيان كورتس، باعتباره شابا (32 عاما)، وتم تصنيفه في وسائل الإعلام والمواقع الإخبارية باعتباره "أصغر رئيس وزراء في العالم"، لكنه في الحقيقة يميني متطرّف، ويعتبر عدوا للاجئين والمهاجرين، كما عرف بدوره في إقرار قوانين تستهدف التضييق على المسلمين في النمسا، وتصريحاته العنصرية ضد الإسلام، كما أعرب عن رغبته في تطوير العلاقات مع إسرائيل، وأعلن بفخر أن حكومته هي الأولى في تاريخ النمسا التي تعترف بالطابع اليهودي لإسرائيل.
تتحمل وسائل الإعلام مسؤولية كبيرة عن هذا النوع من المعالجة، ففي سياق رغبتها في الحصول على عناوين جذّابة ولافتة للانتباه، فإنها تحاول تجميل الواقع على حساب العمق في الطرح، بالإضافة طبعا إلى السياسيين أنفسهم الذين يسوّقون تلك الأمور بكل الطرق الممكنة، الأمر الذي يدفع وسائل الإعلام إلى الوقوع في فخاخهم، ولا فارق هنا بين وسائل الإعلام العربية أو الأجنبية في ذلك، ونظرة إلى الدعاية التي صاحبت زيارات ولي العهد السعودي إلى الولايات المتحدة وأوروبا في وسائل إعلام غربية ستخبرنا ذلك بوضوح، من دون أن نغفل بالطبع وسائل إعلام أخرى لم تستسلم لتلك الموجة، وقدّمت تغطيات مهنية بعيدة عن البروباغندا السخيفة عن "الأمير الشاب".
D90F1793-D016-4B7E-BED2-DFF867B73856
أسامة الرشيدي

صحفي وكاتب مصري، شارك في إنجاز أفلام وحلقات وثائقية عن قضايا مصرية وعربية، وكتب دراسات ومقالات نشرت في مجلات ومواقع إلكترونية.