النكبة.. معركة الفوتوغرافيا أيضاً

النكبة.. معركة الفوتوغرافيا أيضاً

18 مايو 2018

القاوقجي وسرية من جيش الإنقاذ (تصوير عبد السلام العجيلي)

+ الخط -
واحدةٌ من خساراتنا العديدة إبّان نكبة 1948 أن "معركة" توثيق تلك الجائحة المهولة، فوتوغرافيّا، كسبها الأعداء الغازون. لم يصوّر الفلسطينيون، والعرب الذين قدموا لنصرتهم، بالكاميرا، ما جرى. صوّر بعضهم أنفسهم، وأماكن ومناظر ومشاهد، لكنهم لم يحفلوا بتصوير لقطاتٍ تُسعف في "تأريخ" ما حدث، و"تسجيل" نهب فلسطين وتهجير أهلها. أسباب ذلك عديدة، منها صعوباتٌ ميدانيةٌ تفصيلية، لكن الأهم أن "المعركة"، الواردة في العنوان أعلاه، لم يكن هناك وعيٌ فلسطينيٌّ كافٍ بها، أو بأن ثمّة نزالاً من جنسٍ آخر مع الأعداء كان يحدث على الأرض. 

ليست ذكرى نكبة فلسطين قبل أيام مناسبة الانتباهة هنا إلى هذا الأمر، وإنما ورقةٌ، في مؤتمر "سبعون عاما على نكبة فلسطين.. الذاكرة والتاريخ"، والذي نظمّه في الدوحة أخيرا المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. شارك فيها المختص في تاريخ فلسطين الثقافي والاجتماعي العثماني والانتدابي، وفي دراسة تاريخ التصوير الفوتوغرافي في بلاد الشام، الأستاذ الفلسطيني في جامعة ولاية ألينوي الأميركية، عصام نصّار، وهو الذي يخوض نشاطا لافتا في درس هذا الشأن، وربما يكون الباحثَ الأبرز فيه في مجتمع الأكاديميا. وليست مهمة هذه المقالة إيجاز دراسته الجديدة هذه، وإنما التأشير إلى خلاصاتها، وأظنّها موصولةً بنتائج مماثلةٍ انتهت إليها أبحاثٌ ومطالعاتٌ نشرها نصّار سابقا، والتي أشهر في إحداها "ذهوله" (وهذا أقل ما يقال، بتعبيره) من أنه، على الرغم من ازدهار الحركة الفوتوغرافية في مدينة القدس إبّان النكبة، أغفل المصوّرون العرب والأرمن ضرورة التقاط صور للأحداث من حولهم في 1948.
يشدّد عصام نصّار، في مجهوده البحثي، على وجوب اعتبار الصورة الفوتوغرافية مصدرا إضافيا مهمّا لدراسة تاريخ نكبة فلسطين، ليس في قيمتها التوثيقية للحدث، وإنما أيضا لمحاولة فهمه بشكلٍ أعمق، على ما سمعنا منه في مؤتمر المركز العربي، وعلى ما ألحّ في غير مبحثٍ له سابق. لكنه هو نفسه، يخبرنا أن تصوير مرحلة النكبة عربيا كان في مستوىً ضعيف، وأن الصور المتاحة تظهر القوات الصهيونية أمام الكاميرات مقاتلةً تحارب في سبيل تأسيس دولتها، فيما يظهر العرب (عموما) سعداءَ أمام الكاميرا، وفي أوضاعٍ احتفالية، ربما بالنصر المتوقع الذي لم يتحقق. وهذه واحدةٌ من خلاصاتٍ يرميها قدّامنا الباحث المشغول بموضوعه جيّدا، بعد أن أخبرنا أيضا أن من أسباب غياب التوثيق الفوتوغرافي العربي للنكبة انعدام الإطار المؤسّساتي لدى عرب فلسطين والمقاتلين الذين شاركوا متطوّعين، وليس كوحداتٍ منظمةٍ لديها إمكاناتُ دولةٍ ترغب بتوثيق ما حدث، بعكس الوكالة اليهودية والمؤسسات الصهيونية الأخرى في فلسطين.
ليست القصة هنا فقط، إنها أيضا في عدم توفر أرشيفاتٍ رسميةٍ عربية، وإنْ وُجدت فهي غير متاحةٍ للباحث حتى الآن. وهنا يوضح عصام نصّار أن الجزء الأكبر من الصور التي تعتمد عليها دراستُه من أرشيفي وزارة الحرب الإسرائيلية ومكتب الصحافة الحكومي الإسرائيلي في القدس. وفي الأول صور لمصورين فلسطينيين نهبتها الدولة العبرية بعد 1948، والثاني يقتصر على صور لمصوري عصابات الهاغانا أو الجيش الإسرائيلي. ولا أظن أن الباحث القدير يُفاجئنا في إفادته هذه، فثقافة التأريخ والأرشفة وحماية الذاكرة والتوثيق غير متحقّقة تماما في التجربة العربية، ولا سيما على المستوى المؤسّسي، الرسمي منه خصوصا. ولعل هذا من أسبابٍ جعلت بحوث التاريخ، العلمية الجدّية، وذات المصداقية، في بلادنا العربية، شحيحةً، ولا سيما في عقودٍ سابقة، قبل أن تتيسر سبل الوصول إلى المعلومات المدققة. وهذا موضوعٌ طويل وعويص.
لم يكن أعداؤنا يعملون على هزيمتنا فحسب، وإنما أيضا تسجيل انتصارهم، ولا أدري إن كان هذا يعود إلى حذاقةٍ مقيمةٍ فيهم، جعلتهم يتعمّدون أن يسجّل التاريخ، بالصورة أيضا، خيباتنا. سمعنا من عصام نصّار أن الجيش الإسرائيلي استخدم التصوير لتوثيق نشاطاته بشكل كبير نسبيا، كما فعلت القوات الصهيونية. فيما لم يفعل أحدٌ من جماعتنا ذلك، بل إن صور التقطها مقاتلون متطوّعون عرب، ومعهم مرافقون (أحدهم الكاتب السوري عبد السلام العجيلي)، لا لشيءٍ إلا لتكون تذكاريةً شخصيةً، أو لتصوير بطولات القائد الفلاني أو العلاني... .
358705DE-EDC9-4CED-A9C8-050C13BD6EE1
معن البياري
كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965. رئيس قسم الرأي في "العربي الجديد".