بغداد في اليوم التالي

بغداد في اليوم التالي

16 مايو 2018

في مركز اقتراع للانتخابات النيابية العراقية في أربيل (12/5/2018/الأناضول)

+ الخط -
لم تختلف بغداد في يومها التالي على الانتخابات البرلمانية الرابعة عما كانت قبله، إذ لم تنبئ نتائج العملية الانتخابية بإمكانية حدوث تغيير حقيقي في البنية السياسية القائمة، ولم يتحقق للذين شاركوا بالتصويت فيها بعض ما كانوا يأملونه، وكذا لم يحظ الذين فضّلوا الوقوف على الشاطئ، بانتظار أن تأتي المياه بجثث خصومهم بما قدّروه.
تلك هي خلاصة الخلاصة، وهذا يعني أن سنين أربعا عجافا أخرى قد تلحق بسني العذابات والهموم والمصائب التي عاناها العراقيون في ظل احتلالين، لا أقسى منهما ولا أمر. ولكن ثمّة مؤشراتٌ يخرج بها المراقب من هذه التجربة، قد تشكل أساسا لرؤية أكثر واقعية.
أول تلك المؤشرات أن نسبة المشاركة في التصويت تجاوزت 44%، بحسب مفوضية الانتخابات، وفي حدود 30% بحسب محايدين، تعني أن ثمة من اعتقد أن في الوسع إصلاح "العملية السياسية" الماثلة من داخلها، وثمّة من آمن بأن تعلم "الديمقراطية" والتدرّب عليها يحتاج زمنا أطول، وسيدرك كلا الطرفين، بمرور الزمن، خطأ نظرتهما، وسيكتشفان أن السنوات الخمس عشرة التي مرت رسخت وجود "بنية" حاكمة، تسندها جهاتٌ خارجيةٌ ذات مصالح ومطامع، وفئات طفيلية مستفيدة في الداخل، وجاهزة للعضّ بالنواجذ على ما حققته من ثروةٍ وسطوةٍ، إذا ما شعرت بما يهدّد امتيازاتها، وهذا كله لا يؤسس إمكانية لتغيير جاد وحقيقي، كما لا ينبئ بتطور ديمقراطي مأمول، فضلا عن أن هناك عديدين ممن شاركوا في التصويت كانوا مرتبطين بثمن مادي دفع له سلفا، ولم يعط صوته عن قناعةٍ حقيقيةٍ بالمشاركة.
وثانيها أن نسبة المقاطعة كانت عالية (قد تصل إلى 70%)، صحيح أن بعض من قاطع لم يكن يعبر عن موقف واع ومسؤول، وإنما فرضت عليه بعض الظروف الغياب عن التصويت، لكن معظم المقاطعين، على ما يبدو، كانوا يعبرون عن موقف وطني محسوم، يسعى إلى إسقاط "العملية السياسية" القائمة، وإنضاج عملية سياسية وطنية، تتجاوز المحاصصة، وتعتمد 
المواطنة، مدركين أن نجاح المقاطعة هو بداية الطريق، وليس نهايته، وقد ظهرت لاحقا دعوات على مواقع التواصل لتشكيل "حكومة إنقاذ"، وهو مقترح تبنّاه المرجع الشيخ مهدي الخالصي الذي رأى "أن المقاطعة أكدت أن الطبقة الحاكمة غير مرغوب فيها". ودعا إلى عقد مؤتمر وطني شامل من المرجعيات والتكتلات والمنظمات الوطنية، لتشكيل حكومة إنقاذ تتولى إجراء انتخابات حرة ونزيهة، وتعمل على تغيير العملية السياسية جذريا، كما عبر البعثيون وأنصارهم عن موقفٍ مماثل، واقترح آخرون أن يظل باب المؤتمر المقترح مفتوحا، حتى أمام من دخل "العملية السياسية"، وخرج من المولد بلا حمص.
وقد سعى إلى ركوب هذه الموجة "ائتلاف الوطنية" الذي يتزعمه إياد علاوي، بعد تراجع حظوظه في تحقيق النقلة التي كان يطمح لها، حيث دعا إلى إلغاء نتائج الانتخابات، وتحويل الحكومة الحالية إلى حكومة تصريف أعمال تعد لانتخابات جديدة، بعد توفير الظروف الملائمة. وفي كل الأحوال، فان الطرفين الخارجيين المهيمنيين على مقدرات العراق، أميركا وإيران، لن يسمحا قطعا حتى لمجرد ترويج أفكار كهذه، ونعرف أن الطرفين باركا، كل على طريقته ومن منظوره، الانتخابات الحالية، ورضيا بنتائجها حتى قبل أن تظهر!
وثالث هذه المؤشرات أن بعضا ممن رفضوا "العملية السياسية" الماثلة طوال خمسة عشر عاما، ودعوا إلى تغييرها جذريا، قفزوا إلى القطار في آخر لحظة، وشاركوا في لعبة الانتخابات، وقد فشلوا في الحصول على ما أملوه، وعادوا يجرّون أذيال الخيبة، لكنهم بخطوتهم تلك أعطوا خصومهم نقطة إضافية.
ورابعها صعود التيار الصدري والمتحالفين معه من يساريين ومدنيين، على نحوٍ لم يكن متوقعا، وهو الصعود الذي يزعم عديدون أنه قد يؤسس لبلورة جبهة عريضة، تقود تحولا يتجاوز المحاصصة الطائفية والعرقية. ويربطون ذلك مع ما كان طرحه رئيس الوزراء، حيدر العبادي، من أن في استمرار المحاصصة والامتيازات وتوزيع المناصب "خداعا للناس يعيدنا إلى المربع الأول، ويشكل انهيارا ثانيا للدولة"، فيما لم ير آخرون في ذلك كله أكثر من "بالونات" اختبار، القصد منها إعادة الحياة للعملية السياسية التي توشك على الموت في صيغة "منقحة". وفي النهاية، يدرك المواطن العادي الغارق في مشكلاته اليومية أن لا شيء يمكن أن يغير الحال في المدى المنظور على الأقل.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"