ميدان التحرير.. راية ضد المحتل والمستبد

ميدان التحرير.. راية ضد المحتل والمستبد

13 مايو 2018

حشود تهتف بسقوط مبارك في 30 يناير 2011 (Getty)

+ الخط -
يمثل ميدان التحرير في قلب القاهرة ذاكرة جمعية للشعب المصري، تجسّدت فيه ثورة يناير، ومثلت بعنفوانها وقوة جماهيرها حلقة من حلقات التغيير التي تركت آثارها إقليميا وعالميا. ومثل الميدان بقعة إلهام لكل الثوار، بل أحيا مفاهيم الثورة بعد طول غياب من دراسات علم الاجتماع السياسي. ومن هذه الزاوية، يحمل "التحرير" أهمية سياسية وتاريخية، ويحمل، بحكم كونه ميدانا للثورة، رمزية التغيير.
مثّل الميدان مساحة للتنافس والسيطرة والنفوذ، وسعت قوى سياسية للسيطرة عليه، وبذلت الثورة المضادة جهودا لطمس معالمه ودلالاته، فغيرت من ملامحه ومن كينونته، فتحول إلى أداة لها أحيانا، فترة قصيرة بعد حراك 30 يونيو. وضعت السلطة نصبا لشهداء الثورة، ثم سرعان ما تمت إزالته. وعبر تغيرات إنشائية، تمت إعادة الميدان إلى تصميمه القديم الذي تظهره صور أرشيف ومقاطع فيديو خلال السبعينات.. علم وسارية مرتفعة، ومساحات من الرخام والطرق في "الصينية" التي تتوسطه، وكان التجديد الذي تم يحاول حصار مساحات التجمعات المتاحة، ويستعين بالشكل القديم لمواجهة مساحات الحرية التي تفجرت من هذه البقعة، تغيرات هندسية تحاول طمس فترة حسني مبارك والثورة معا، لصالح ماض ساداتي، يشتبك مع الحكم الحالي في بعض جوانبه.. إنها الاستعانة بالماضي في مواجهة شكل ميدان الثورة التي اندلعت على نمط الحكم المباركى خلال يناير/ كانون الثاني 2011.
ليست التغيرات الإنشائية فقط التي تنتمي لعصر السادات، فقبل أيام شهد فندق "الريتز كارلتون"، بين ضفاف النيل وميدان التحرير، احتفال دولة الاحتلال الإسرائيلي بذكرى قيامها السبعين على أراضي فلسطين المنكوبة، أمتارا من جامعة الدولة العربية، بمشاركة رجال أعمال ودبلوماسيين وشخصيات عامة مصرية.
ثمة إشارات عديدة عن ذاكرة المكان ورسائل الاحتفال الإسرائيلي، منها الدلالات المكانية، إذ
 يرتبط الاحتفال في هذا الفندق بأنه يقع في قلب القاهرة، ويطل على ميدانٍ يمثل رمزا للمقاومة والحرية، والذي رفعت فيه أعلام فلسطين قبل ثورة يناير وبعدها، وهو الميدان الذي شهد تاريخا ممتدا من مظاهرات تضامنية مع القضايا العربية، أبرزها المساندة للشعبين، الفلسطيني واللبناني، ضد همجية إسرائيل وعدوانها. كما أنه شهد مظاهرات مناهضة لغزو العراق عام 2003. وانطلقت منه في سبتمبر/ أيلول 2011 مظاهرة ضمت عشرات الآلاف حاصروا سفارة إسرائيل، وأجبروا طاقمها على مغادرة القاهرة.
تبرز إسرائيل مقابل فلسطين في ميدان التحرير اليوم، في ظل محاولات تصفية القضية الفلسطينية، عبر "صفقة القرن" التي تمهد لها تكتلات إقليمية عربية بطرق عديدة، منها بوابة الاقتصاد الذي تعتبره حكومات عربية، ومنها المصرية، في تصريحات رسمية، أنشطة مشروعة وضرورية للتنمية. وكان التعاون اقتصاديا مع إسرائيل شرطا للتنمية، ففي فندق "الريتز كارلتون" في الرياض، أعلن مشروع نيوم العابر للحدود، والذي يمثل جسرا للتطبيع العربي الإسرائيلى عموده الأساسي الاقتصاد.
شهد ميدان التحرير مظاهرات لثورة 1919، وتظاهر فيه ما يزيد عن مليون مصري ضد الاحتلال البريطاني عام 1951، وكذلك المظاهرات ضد إلغاء دستور 1923 فيما عرفت بانتفاضة 1935، ثم مظاهرات الحركة الطلابية في 1946 التي ربطت بين الاستقلال والديمقراطية والتغير الاجتماعي. ولم تنقطع مظاهرات المصريين، طلابا وعمالا ومفقرين في الميدان، فبعد المحاكمات الهزلية ضد المتسببين في النكسة، خرجت مظاهرات عام 1968، ثم المظاهرات المطالبة بتحرير سيناء، وأبرزها مظاهرات يناير/ كانون الثاني 1972. وبعدها مظاهرات انتفاضة 1977، والتي تشبه، إلى حد كبير، مظاهرات ثورة يناير، من حيث المواجهات بين الشعب والسلطة حينها والمطالب الاجتماعية، وشكل التجمعات ونوعية المشاركين فيها. وعرف الميدان أصوات شعراء بارزين، منهم أمل دنقل وزين العابدين فؤاد وأحمد فواد نجم، وتحولت قصائد لهم إلى شعارات للثورة، وميثاقا للحركة الوطنية، أبرزها "الكعكة الحجرية" و"لا تصالح"، و"دماء على الإسفلت"، و"اتجمعوا العشاق".
ولم تنقطع محاولات الوصول إلى الميدان الذي تعلق به المصريون وسجل تاريخهم. وحاولت حركة الاحتجاج السياسي طوال فترة مبارك أن يكون ميدان التحرير بؤرة احتجاجهم، حتى جاءت ثورة يناير، وما تلاها من صراع للسيطرة على الميدان من القوى السياسية المناهضة لمبارك، والتي تحت تشتتها المبكر، واصطفافها ضد بعضها بعضا أتاحت مساحةً لبروز الثورة المضادة، وبدل أن يتوحد الكل ضد السلطة من أجل التغيير، انقسمت قوى الثورة مبكرا، وتحالفت في فترات مختلفة بعض من قواها مع قوى الثورة المضادة.
واليوم، وبالقرب من الميدان، يحتفل الصهاينة، وأنصارهم من الشركاء والمستفيدين منهم، بتأسيس دولة الاحتلال، ليسقطوا بقصد رمزية المقاومة، ويلطخوا الميدان بانتهازية المنتفعين أحيانا، والمنهزمين أحيانا باسم الأمر الواقع، كلاهما يهرول إلى إسرائيل، لكتابة صفحة جديدة في التاريخ، بمباركة الثورة المضادة محليا وإقليميا.
يخص ما سبق بعض الدلالات المكانية للميدان، وهناك ما يخص الدلالات الزمنية وتوقيت الاحتفال والذي أقيم بعد عشر سنوات من انقطاعه في القاهرة، أي منذ الاعتداء الإسرائيلي على قطاع غزة في العام 2008، والتي تمت بعد إبلاغ أطراف عربية، في مقدمتها مصر بعد زيارة وزيرة خارجية إسرائيل، تسيبي ليفني، القاهرة، الزيارة التي كان فيها وزير الخارجية، أحمد أبو الغيط، حينها يلتقط صورا مع ليفنى والابتسامة لا تغيب عنه. وتاليا، انتقل الرجل إلى جامعة الدول العربية أمينا عاما، على بعد أمتار من احتفال سفارة إسرائيل بعيد تأسيسها.
ويأتى موعد الحفل قبل نقل سفارة أميركا إلى القدس بأيام، وكأنه إعلان تسوية للقضية الفلسطينية بموافقة عربية، ليس لكم أن تطالبوا بعودة اللاجئين أو أن تكون القدس عاصمة تاريخية لفلسطين، ولا تطمعوا في دولة مستقلة، يكفيكم شريط ضيق يضاف إلى قطاع غزة.
ويعني الاحتفال، في أحد جوانبه، احتفاء بعودة العلاقات المصرية الإسرائيلية الرسمية إلى مستوي صاعد. ولكن على الرغم من التعاون الرسمي القائم، ما زالت إسرائيل تلقى رفضا شعبيا، يحاول المستفيدون من النظم والكتل الاقتصادية كسره، خصوصا بعد أن ذهب عشرات ألوف المصرين من ميدان التحرير سيرا على الأقدام ليحاصروا سفارة دولة الاحتلال في سبتمبر/ أيلول2011، هرب بعدها رجال السفارة بمساعدة الحكومة المصرية، كما كشف أخيرا فيلم وثائقي عرضته إحدى قنوات التليفزيون الإسرائيلي.
الدلالة الثالثة احتفاء دولة الاحتلال بهذا الاحتفال، الذي انعكس على اهتمامات الصحف العبرية، وبيان الخارجية الإسرائيلية، وحديث السفير الإسرائيلي في القاهرة، في الحفل، عن بداية مرحلة جديدة من العلاقات العربية الإسرائيلية تمر من قلب القاهرة، وعن شراكة متينة مع مصر، تشكل في رأي دولة الاحتلال قدوة ومثالا لحلّ صراعات إقليمية ودولية. وأشاد بتطور العلاقة
الرسمية مع أنظمة عربية لم تعد ترى في إسرائيل عدوا، بل شريكا في صياغة واقع جديد وأفضل في المنطقة، واقع يستند إلى الاستقرار والنمو الاقتصادي.
وعلى الرغم من التطورات في العلاقات الإسرائيلية العربية، إلا أن الشعب المصري، والشعوب العربية عموما، ترى إسرائيل العدو الأول، وأنها مصدر للقلق والتوتر في المنطقة. وهذا ليس حكما متفائلا، ولكن هناك وقائع تثبته كالاحتجاج ضد جرائم إسرائيل، وحين تحتجب إمكانات الاحتجاج والتعبير، فإنه يمكن الاستعانة بنبض الشارع الذي توضحه نتائج استطلاعات الرأي، وأبرزها المؤشر العربي، والذي أصدر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الذي ينجزه سنويا نسخته السادسة لعام 2017-2018 والذي أفاد أن ما يزيد على 90 % من المواطنين العرب يرون إسرائيل العدو الأول ومصدرا للتوتر في المنطقة. وتدرك السلطات العربية هذا الأمر، وتحاول أن تغيره بدوافع اقتصادية، وبتبريراتٍ سياسيةٍ تحت فرضية الأمر الواقع، لكن هذا لا يغير أن إسرائيل عدو، وأن محاولات إبدال الخصوم والمنافسين الإقليميين بإسرائيل لم تنجح بعد، بدليل تردد الحكومة المصرية في إقامة الاحتفال، وإعلان منتمين لصفوف السلطة ومؤيديها رفضها له، حتى إن السفارة الإسرائيلية التي هللت بالاحتفال خشيت أن تعلن أي تفاصيل عن الحضور من المصريين، وشوّشت على الصور التي نشرتها على منصاتها الإعلامية، لكيلا تظهر وجوههم، خوفا من تحديد هويتهم. ولم تنشر الصحف أسماء المشاركين في الحفل، ما يدلّ على أن الشعوب بخير، وأن الحكومات تخاف من ردود أفعال شعوبها، وأن الثوار الذين كانوا وما زالوا أنصار السلطة يتهمونهم بالعمالة للخارج، والتآمر على الوطن أكثر وطنيةً من الذين يتهمونهم بالعمالة وتهديد الأمن القومي، لكي يزيلوا بعض وساخاتهم بتلطيخ الآخرين نوعا من التطهر.

دلالات

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".