الراسخون في الفساد

الراسخون في الفساد

13 مايو 2018
+ الخط -
ربما أعادت حادثة السجن الأفخم في العالم في الرياض، فندق ريتز كارلتون، قضية الفساد إلى صدارة القضايا التي أثارت جدلا واسعا في أوساط الرأي العام العربي أخيرا. فقد تم اعتقال نحو مائتي شخص، بينهم أمراء ومسؤولون كبار ورجال أعمال رفضوا تسليم ثرواتهم مقابل الحرية. وجراء ذلك تم سجنهم أكثر من ثلاثة أشهر داخل أسوار الفندق الفخم في العاصمة السعودية. وتم إطلاق أغلبهم في أواخر يناير/ كانون الثاني الماضي، بمن فيهم الأمير الوليد بن طلال، أحد أكبر رجال الأعمال في المملكة، ورئيس المجلس الإداري لشبكة قناة إم بي سي، وليد الإبراهيم، وتفيد تكهنات بأن الذين بقوا سيتم نقلهم إلى سجنٍ تديره الدولة. وقد هزت الحادثة عرش المملكة المحافظة، وأزالت الحماية والحصانة من الشخصيات والعائلات ذات القوة والنفوذ في المجتمع السعودي، والذين استفادوا عقودا طويلة من الفساد المنهجي الذي تعمّقت جذوره داخل الدولة السعودية. ولم يكن ممكنا، قبل عهد ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، مجرد التفكير في المساس بهم.
.. عندما تقلصت ثروة المملكة تحت ضغط أسعار النفط المنخفضة بشكل تنازلي، بالإضافة إلى فاتورة الحرب الباهظة في اليمن، سعى وريث البلد القوي، والذي قام بدور "وكيل التغيير" إلى إيجاد طرق لتجديد الاقتصاد، وتغيير مجتمع أصبحت نخبه معتادةً على امتيازاتٍ بلا حدود، وسلطات بلا رقابة. وقد أظهرت حادثة "الريتز كارلتون"، وعلى الرغم من نبل مقاصدها إذا صدقت، في محاربة الفساد، وبشكل غير خاف، قصورا هائلا في أداء النظام العدلي والجنائي في السعودية، حيث أن محاكمة أفراد بعينهم واسترداد مبالغ طائلة منهم، وبصورة منفردة ومعزولة عن البنية القضائية والجنائية، يبدو كأنه استهداف لأشخاص أكثر من أنه محاربة للمفسدين.
ولكن السعودية ليست استثناءً، فقد قامت الحكومة السودانية في مارس/ آذار وأبريل/ نيسان 
الماضيين، بحملاتٍ مماثلة من الاعتقالات الواسعة لمن أسماهم الرئيس عمر البشير "القطط السمان" من كبار المسؤولين ورجال الأعمال. وعلى عكس الحال في السعودية، والتي أعلنت عن استرداد أكثر من مائة مليار دولار (400 مليار ريال سعودي) في حملة ولي العهد، لم تكشف السلطات السودانية عن تمكنها من استعادة أي من المبالغ المشتبه فيها. وقد استقبل الشعب السوداني بفتور ولامبالاة إعلان الحكومة تشكيلها محكمة جنايات خاصة بمكافحة الفساد ومخالفات المال العام لفقدانه الثقة في الإرادة السياسية للحكومة السودانية في اتخاذ إجراءات عقابية ضد الفاسدين، خصوصا وأن أغلبهم من المسؤولين، ومن الحركة الإسلامية، ورجال أعمال موالين لها.
في أغلبية الدول العربية، وربما جميعها، هنالك أمر مثير للقلق، متمثل في عدم النزاهة أو حتى الفساد النشط داخل المؤسسات العدلية والجنائية المكلفة ﺑﺈﻧﻔﺎذ ﺳﻴﺎدة اﻟﻘﺎﻧﻮن وضمانها. وهذه حقيقة محزنة في بلدان كثيرة، خصوصا التي لا تتمتع بأنظمة ديمقراطية، ما تسبب في الانصراف الشعبي وفقدان الثقة العامة في تلك المؤسسات التي ينظر إليها فاسدةً ومحابيةً للنخب السياسية والرأسمالية. وفي المقابل، تسبب هذا في ترسيخ الفساد المنهجي القائم على تقويض شرعية الدولة وأسس العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص للأفراد والمساواة أمام القانون. لذلك، فإن أي محاولات حقيقية لمحاربة الفساد يجب أن تتم بشكل منهجي شامل، وبإعادة هيكلة الدولة، بحيث يتم تطبيق الإصلاحات المؤسسية، وتنفيذ الإجراءات القانونية والإدارية، من دون محاباة أو تفضيل مع ضرورة التكامل بين مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والإعلام.
في مقابل كل طفل حرم من التعليم موظف سرق الأموال اللازمة لتسيير شؤون المدرسة. وفي مقابل كل جسر أو طريق بري لم يكتمل، وكان مزمعا إقامته لربط الريف بالمدن، شركة إنشاءات لم توف بالتزاماتها في العقد الذي أبرمته. وفي مقابل كل امرأة فقدت حياتها في أثناء الولادة وزارة صحة يهيمن عليها نافذون يختلسون من ميزانيتها الملايين. وفي مقابل كل مشروع للإمداد المائي لم يؤد غرضه، لأن المياه قد أهدرت، شركة منفذة تعمدت استخدام أنابيب من دون المستوى المطلوب لتحقيق الربح. ووراء الإخلال المتعمد بقواعد الحياة السياسية المنصوص عليها فى الدستور برلمان متواطئ خاضع لسيطرة الحكومة، تخلى عن وظيفته في المساءلة والدفاع عن المصلحة العامة في مقابل الامتيازات والمخصصات التي يصرفها أعضاؤه.. وفي مقابل الملايين من المواطنين المحرومين من احتياجاتهم الأساسية مشاريع تنموية ظلت حبرا على ورق، لأن القادة السياسيين استأثروا بالأموال اللازمة، وتركوا المجتمعات المحلية تعاني من الفقر والتهميش.
وهذا ما يوضحه كتاب "لماذا تفشل الأمم"، وفكرته الأساسية أن هنالك "حلقة مفرغة" في دول العالم الثالث، امتدت في القرون الثلاثة أو الأربعة الماضية. تم خلالها إنشاء مؤسسات هذه الدول لأول مرة بطريقة إقصائية من قوة استعمارية، وعن طريق الاستغلال المنهجي للموارد الذاتية الداخلية للبلد المستعمر. وعند الاستقلال، أصبحت هذه الدول خاضعة لحكام ما بعد الاستعمار من مواطنيها الأصليين، والنخب السياسية الحاكمة. وقد توارثت النخب هذا النظام الإقصائي بصورةٍ تم فيها احتكار مؤسسات الدول ومواردها لصالح نخبةٍ صغيرةٍ، بدلا عن توجيهها لمنفعة أغلبية الشعب. ولعل هذا يوضح لنا، وبجلاء شديد، لماذا أصبح معظم قادة الدول الأفريقية والعربية والآسيوية راسخين في الفساد!
يرى مؤلفا الكتاب، جيمس روبنسون ودارون أسيموغلو، أن هناك أملا ضئيلا لمثل هذه الدول في التغيير ما لم يكن هنالك تحولات ديمقراطية جذرية، تعمل على إنشاء المؤسسات بطريقة شاملة، وغير إقصائية، لصالح جموع المواطنين، بدلا من العمل فقط لصالح الأثرياء والنخب الحاكمة.
في المقابل، أورد الكتاب أن دولا، مثل بريطانيا العظمى والولايات المتحدة، ثرية لأن مواطنيها أطاحوا النخب الذين سيطروا على السلطة والثروة، وأنشأوا مجتمعا أصبحت فيه الحقوق السياسية موزعةً على نطاق أوسع، والحكومة مسؤولة ومساءلة ومستجيبة لجماهيرها، وحيث الجماهير العريضة يمكنها الاستفادة من الفرص الاقتصادية. استفادت هذه البلدان من رحلة الديمقراطية الراسخة، والتي أصبحت فيها المؤسسات أكثر شمولا تدريجيا، ما أحدث مناخا ملائما للنمو الاقتصادي، ووفر حوافز متزايدة لأصحاب المشاريع والقطاع الخاص.
بينما تحيي دول ما يعرف بالربيع العربي ذكرى الثورات التي قامت بها شعوبها في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية ضد أنظمة ديكتاتورية، مارست جميع أشكال الفساد السياسي والاقتصادي، يبدو أن مقاصد هذه الثورات، وعلى نبلها، ما زالت مجرد أمنيات بعيدة المنال. فقد تشابهت الشعارات التي غصت بها الحناجر في الساحات والميادين، لكن اللافتة الأبرز كانت هتاف الجميع ضد الفساد والرشوة والمحسوبية وعدم تكافؤ الفرص بين أفراد البلد الواحد، فهل تخلصت تلك الدول، وغيرها ممن لم تشهد ثورات مماثلة، من حمولة تركة الفساد الثقيلة المتوارثة نظاما بعد الآخر؟
ما زال المشوار طويلا، فقد كشف أحدث تقرير لمنظمة الشفافية الدولية لعام 2017 عن تفاقم الفساد في معظم دول الربيع العربي، وخصوصا سورية التي احتلت المرتبة الثانية عالميا في مؤشر الدول الأكثر فسادا، تلتها اليمن وليبيا والعراق، والسبب الرئيسي استمرار النزاعات 
والحروب في هذه المناطق. ولكن تفشي ظاهرة الفساد في الدول العربية لا يقتصر على الدول التي شهدت تحركات وانتفاضات، فالمؤشر العالمي يضع ست دول عربية ضمن قائمة الدول الإحدى عشرة الأكثر فسادا في العالم، منها العراق والسودان والصومال. ويستخدم المؤشر الذي يصنف 180 بلدا من حيث مستويات الفساد في القطاع العام مقياسا من صفر إلى مائة، وصفر شديد الفساد. وفي منطقةٍ تعاني من الصراعات العنيفة والدكتاتوريات، ليس مفاجئا أن 19 دولة عربية تحصل على أقل من 50 في مؤشر إدراك الفساد لعام 2017، باستثناء الإمارات وقطر اللتين احتلتا موقعين متقدمين ضمن الدول الأقل فسادا. وقد أشار التقرير إلى أن جهود وقف الفساد سجلت تراجعا، بسبب إساءة القادة وكبار المسؤولين استخدام الأموال العامة، وتهريبها مع الإفلات التام من العقاب. مثلا، بعد أن شهدت تونس تقدما طفيفا في مكافحة الفساد، إلا أن مصادقتها على قانون مصالحة يمنح العفو عن الموظفين العموميين الفاسدين الذين خدموا خلال نظام زين العابدين بن علي مثلت نكسة كبيرة، ووجه القانون بمعارضة شعبية واسعة. وعلى الرغم من اعتراف الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، بوجود الفساد في بلاده، إلا أن نظامه عاقب رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، هشام جنينة، بتهمة نشر أخبار كاذبة تتعلق بالفساد، لأنه كشف أن حجم تكلفة الفساد في السنوات الأربع الماضية يقدر بحوالي 600 مليار جنيه مصري. وعلى الرغم من أن أغلبية الدول تعتمد مثل هذه التقارير القُطرية مرجعية للإصلاح ومكافحة الفساد، إلا أن الأنظمة غير الديمقراطية، مثل النظام المصري، لا ترحب بها، بل حتى إنها تشكك في مصداقيتها، وتعاقب من يكشفونها.
على الرغم من بذل بعض الجهود، لا يزال الفساد قائماً في هذه البلدان، وفي جميع المنطقة. حيث تعكس النتائج الثابتة لهذه الدول في مؤشر إدراك الفساد أن التحدي الكبير الذي يواجه هذه المنطقة هو الفساد السياسي الراسخ في هيكلية الدولة السياسية، حيث تسيطر النخب الحاكمة على الأنظمة السياسية والاقتصادية بصورة استبدادية منظمة، تسيء استغلال السلطة، لتحقيق مكاسب شخصية وفئوية ضيقة، على حساب ملايين من مواطنيها.
60566A08-4741-4CFA-9AEC-FE4329D24640
60566A08-4741-4CFA-9AEC-FE4329D24640
ندى أمين

كاتبة سودانية. مستشارة ومدربة في الإعلام والتنمية. عملت رئيسة قسم الإعلام في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، مكتب السودان. ومسؤولة الإعلام والمجتمع المدني في البنك الدولي، مكتب السودان. ماجستير في الإعلام من الجامعة الأميركية في واشنطن.

ندى أمين