الرقص على شرنقة العنكبوت

الرقص على شرنقة العنكبوت

02 مايو 2018
+ الخط -
"يبلغ عدد أفراد القاعدة الانتخابية في العراق أربعة وعشرين مليونا، ولو أراد ثلثهم تغيير المشهد السياسي الماثل لاستطاعوا، ولكن ليس من غير عناء". هذا ما قاله ناشط سياسي عراقي مخضرم، عاش سنوات العذاب المر وسنوات الخير سواء بسواء، وهو اليوم يتابع المشهد من بعيد، بشيء من المرارة. سألته عن رؤيته للحراك الانتخابي الماثل هناك، ثمّة من يفضّل المشاركة في التصويت، بأمل إنضاج التغيير المطلوب على نار هادئة، فيما يرى آخرون أن المقاطعة هي الحل "الثوري" الذي يعرّي العملية السياسية التي جاء بها الأميركيون، ويبقي النار حاميةً من أجل تغييرها، أجاب: "ليس كافيا أن يعطي المشارك صوته ثم يخلد إلى النوم، ولا يكفي أيضا أن يقاطع الآخر ثم ينأى بنفسه جانبا، فحال العراق لا تشبه حال بلد آخر، وهي أقرب ما تكون إلى شرنقة عنكبوتٍ، فقد خرج العراقيون من حكم شمولي صارم، دام عقودا، مثقلين بأعباء صعبة، ليدخلوا نفق الاحتلال الأميركي والهيمنة الإيرانية، وإذا كان من الممكن أن يلقي الأميركيون بعصيهم ويرحلوا، فإن الهيمنة الإيرانية تبدو شبه مؤبدة، وهذا ما يثقل ظهور العراقيين بأعباء أكبر، ليذهب إلى الصندوق من يرغب، وليقاطع من يريد، شرط أن يحترم كل منهما موقف الآخر، لكن هذا الشرط ليس في ذاكرة أحد كما يبدو، وكل منهما يريد الرقص وحده على شرنقة العنكبوت".
قلت: ما العمل إذن؟ قال: "لا نستطيع أن نحقق ما نريد بالاستراتيجيات القديمة نفسها التي انتهت صلاحيتها. نحتاج أولا أن نضع الأيديولوجيا جانبا، وأن نهجر المقولات العتيقة التي تروج دور "الطليعة" أو "الحزب الواحد" أو "القائد الضرورة"، والتي جعلت المواطنين العاديين ينأون بأنفسهم جانبا، ما دام هناك من ينوب عنهم ويتحدث باسمهم. وعلينا أن نعمل 
كمواطنين متّحدين ملتزمين بخدمة بلدهم. هنا تبدأ مهمة تعميق الوعي، وترسيخ روح المواطنة، وتغليب الهوية الوطنية الجامعة على غيرها من هويات، وتربية المواطن على احترام التنوع في الأفكار والمعتقدات، وكذا في الأديان والأعراق والأصول. صحيح أن استعادة عافية بلد ليست كاستعادة عافية فرد، يكفي الفرد علبة دواء واحدة أو جراحة صغيرة كي يستعيد عافيته. يحتاج البلد عديد جراحات كبرى، وعشرات أطباء وممرضين، كي ينهض قليلا. ولكن متى كانت التحولات الكبرى تتم بجرّة قلم أو جرّة إذن؟
هل وصل إليك أن العراقيين يحيون ليلهم ونهارهم على وقع أزماتٍ دراماتيكية حادة؟ هل عرفت ما يعانونه جرّاء انهيار الخدمات الاساسية، وعدم كفاية الطاقة الكهربائية، وصعوبة وصول المياه الصالحة للشرب إلى ضواحي المدن والأرياف، وعدم توفر الخدمة الصحية المناسبة، وضعف التعليم بمختلف مراحله، وانتشار الأمية على نحو مريع، والانتهاكات التي يتعرّضون لها في حقوقهم الأساسية؟
هل سمعت أن آفة الفساد أصبحت جزءا من النسيج المجتمعي، إلى درجة أنك لا تستطيع إنجاز مسألة صغيرة من دون دفع الثمن؟ هل خطر بذهنك أن ملايين العراقيين يفترشون الأرض، ويلتحفون السماء في ما قيل لهم إنها بلادهم، وإن ملايين مثلهم ينتشرون في بقاع الأرض، بحثا عن وطنٍ بعد أن كف وطنهم عن أن يمنحهم الحب والأمان؟ هل وصلت إليك أخبار ظواهر التحلل والهدم الأسري والاجتماعي، وانتشار الجريمة، جرّاء تعاطي المخدرات والسموم القاتلة؟ ليس حل هذه الأزمات في القفز عليها، أو في إيجاد شعور زائف بالاطمئنان، إنما الإيمان بأن مغادرة الحال إلى ما هو أفضل ممكن بالالتزام بالحل الديمقراطي الذي يعتمد دولة قانونٍ وحقوق، والعمل على تكريس الوحدة الوطنية، والسعي إلى بناء عراق يضم الجميع، لكننا نرى بعض المهيمنين على المشهد السياسي يريدون تصفير هذه الأزمات، أو تصغيرها إلى درجة أنهم يختصرون حلها في اللحظة الانتخابية الماثلة التي تبدو مقطوعةً عن جذورها، ذلك أن الاختيار الصائب لممثلي الشعب لا يتم إلا في بيئة صحية خالصة، وعبر عملية ديمقراطية تفتح الأبواب المغلقة. وللوصول إلى تلك اللحظة الجديدة والفارقة ينبغي أن يدرك كل مواطن أهمية التزامه الوطني الذي هو أعلى من أي التزام آخر، وأن لا ينصاع لصوت الطائفة أو العرق أو العشيرة. وعندها يمكن البدء جديا بإعادة بناء العراق المدمر، وعندها أيضا يمكن أن تكون خطوة المشاركة وخطوة المقاطعة خطوتين في مسار واحد، تجعلانا قادرين على الحلم، وعلى صنع التغيير الذي نريد".
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"