كرة القدم والأضواء الحمراء

كرة القدم والأضواء الحمراء

10 ابريل 2018
+ الخط -
ما إن انتهت المقابلة، حتى غادر الشاب الملعب مع أصدقائه، لكنه وجد الشرطة تلاحق الجميع، فانخرط في الجري مثل البقية، لكنه توقف عن الركض، عندما وصل إلى حافة وادٍ من الطين. أراد أن يتراجع إلى الخلف، وهو يردّد "لا أعرف السباحة"، لكنه وجد نفسه يتخبط في ذلك النهر حتى فارق الحياة. وهناك قولان، قولٌ إنه ألقى بنفسه خوفاً من البوليس الذي كان جاثماً وراءه. وقولٌ يردده شهودٌ أكدوا أن هناك يد قذفته إلى اليم، ليلقى مصيره المرعب.
حدث هذا قبل أيام قليلة، وشارك في جنازته أكثر من عشرة آلاف شخص، ورئيس الحكومة يفتح تحقيقا حول ملابسات الحادثة، ورأي عام معبأ ضد الأمنيين.
أصبحت كرة القدم مصدر إزعاج للجميع في تونس. هناك أزمة عميقة ومؤشرات حمراء، ترسلها هذه الرياضة الجماهيرية التي بقدر رونقها وجاذبيتها إلا أنها، خلال السنوات الأخيرة وحتى ما قبل الثورة، تتسبب في توترات حادة وخطيرة.
لا يكاد يمر أسبوع إلا ويثور جدل واسع في الأوساط الرياضية، وترتفع حدة الاتهامات المتبادلة، ويستمر التشكيك في مؤهلات وزيرة الشباب والرياضة أو في الحكومة. ويكثر الحديث عن الفساد المستشري. وتتخذ إجراءاتٌ لمعاقبة هذا الفريق أو ذاك. ويمنع الجمهور من دخول الملاعب فترات مختلفة. وتستعد وزارة الداخلية لبعض المقابلات، وتضع وكأنها ستدخل حربا أو ستدافع عن مدينةٍ مهددة بالغزو أو بالفوضى.
هناك شيء ما يعتمل في باطن المجتمع. وما يجري في المجال الرياضي غير بعيد أو منفصل عما يحدث في قطاعات أخرى. في المدارس عنفٌ متزايد يستهدف المدرسين من طلابهم أو حتى من أولياء طلابهم. وهناك الاعتصامات العشوائية التي تكاد تكون يوميا، حيث يتم إصابة عشرات المؤسسات بالشلل الكامل، أو يقع قطع الطرقات أمام سائقي السيارات ساعات طويلة. أو ظاهرة الاعتداء أحيانا على الأطباء والمؤسسات الصحية، لأسباب تافهة وعدوانية.
ليس ما يحدث داخل الملاعب ظاهرة مستقلة عن الأزمة الشاملة التي يتعرض لها المجتمع التونسي منذ فترة طويلة. هناك من يريد أن يشيع أن هذه الظواهر هي نتاج الثورة التي حدثت قبل سبع سنوات. وهذه أكبر أكذوبة يروّجها المتضررون من التغيير السياسي الذي حصل. لكن المؤكد أن الثورة كشفت المستور، ورفعت الغطاء عما كان جاثما وراء القمع الممنهج، فبدت بوضوح المشكلات المعقدة التي كانت مختلف الأجهزة تعمل على إخفائها والتعامل معها بطرق مؤقتة ومحدودة الأثر. ولهذا، ما إن انهار النظام القديم، حتى خرجت كل هذه المشكلات دفعة واحدة، ومن دون أي رقيب. وعندما حصل ذلك، لم تتمكّن مختلف الحكومات المتعاقبة، والتي تتغير في أوقات قياسية، من أي قدرة حقيقية على معالجتها والتحكّم فيها. بل على العكس، تعدّدت الصراعات والانشقاقات، وتدخلت اللوبيات وشبكات النظام القديم، لتزيد من تغذية الأزمة، ومن توسيع دائرة الشك والحيرة لدى شبابٍ يحاول جاهدا أن يحافظ على الحد الأدنى من الثقة في نفسه، وفي محيطه الاجتماعي.
تم أخيرا عقد المؤتمر الثاني للحركات الاجتماعية في تونس، والذي جمع أكبر عدد من هذه الحركات التي تأسست خلال السنوات الأخيرة. واعتمد المؤتمرون، في نقاشهم العام، على ملاحظةٍ أساسية، تتمثل في تنامي وتيرة الاحتجاجات الاجتماعية في تونس، استنادا إلى تقرير المرصد الاجتماعي التونسي الذي بيّن بالأرقام تصاعد نسق هذه الظاهرة التي تحولت من 4416 احتجاجا سنة 2015 إلى 8713 سنة 2016، لتبلغ الاحتجاجات 10452 سنة 2017. ويتوقع واضعو التقرير أنه من المنتظر أن يستمر هذا النسق التصاعدي خلال الفترات المقبلة، وهو ما أكدته التطورات أخيرا.
لا يمكن فصل الملاعب عن الفضاء السياسي والاجتماعي. يجب أن نتذكّر أن إرهاصات الثورة التونسية بدأت من داخل الملاعب. الأزمة أعمق، ومن دون نظرة شاملة وتعامل جدي مع الجذور، ومراجعة السياسات والاختيارات الكبرى، بما في ذلك التوجهات الأمنية، فإن الفجوة ستتعمق بين الشباب والأمنيين، وهو ما يفتح الباب واسعا أمام المجهول.