شهوة الميكرفون القاتلة

شهوة الميكرفون القاتلة

09 ابريل 2018
+ الخط -
قالت الروائية الأردنية، سميحة خريس، إن الزمن غربال، بمعنى أن مروره كفيل بتمييز الغث من السمين، وذلك في سياق تعليقها على فكرة طرحتها على صفحتي في "فيسبوك" عن طوفان الإصدارات الرديئة ذات الأغلفة الأنيقة والكم الهائل من الأمسيات وحفلات التوقيع التي تجري في جو من المجاملات البليدة الدبقة. وقد أصبح حضور هذه الأنشطة في معظم الأحيان واجبا اجتماعيا ثقيلا، نقوم به من باب رفع العتب أو سداد دين قديم. وفي السياق ذاته، تطرقت إلى حمّى الظهور لدى فئة من الطارئين المحسوبين، زورا وبهتانا، على الحركة الثقافية، هؤلاء تجدهم الأكثر حضورا في الفعاليات والأكثر إلحاحا في طلب الاعتراف، يتهافتون على مكاسب صغيرة، لا تتعدى مشاركة ضعيفة في فعالية بائسة الإعداد والحضور، تصفها الصفحات الثقافية فيما بعد بالندوة المميزة التي حضرها جمهور نوعي، لأن الجميع اعتاد الكذب والتهويل، الصحف والجهة المعدة والمشاركون والجمهور. الكل يكذب، والكاتب ضعيف المستوى، المريض بشهوة الميكروفون القاتلة، وحده من يرغب في تصديق الأكذوبة، المتواطأ عليها من المجموع. ويبدأ بالتصرف على أساس أنه نجيب محفوظ عصره. كاتب كبير يرتدي قبعة معوجة، ويدخن الغليون، ويرتاد المقاهي، يتقدم للجوائز الملفقة، وتستضيفه فضائياتٌ يقوم عليها جهلةٌ معنيون بتعبئة الهواء بالهراء، للحديث عن تجربته الفذة.
وهكذا تنطلي الخديعة، ويتضخم الوهم وتسود الرداءة، وتتشوه العلاقات المحكومة بالمجاملات والمصالح، ويلمع نجم نقاد التدخل السريع، وهم على أهبة الاستعداد لبيع ضميرهم المهني في مقابل دعوة إلى عشاء، ليصبح المشهد برمته حالة سوريالية غرائبية، تعج باللامعقول من المتناقضات والازدواجية والنفاق. يقول أحدهم، وهو مثقف كبير على درجة عالية من المعرفة، كلاما نقديا جادا في الجلسات الخاصة، يعرّي تلك الحالات الممعنة في الرداءة والركاكة، ليصدمك بمدائح وغزل وإطراء مناقضة مكتوبة عن الحالات الرديئة ذاتها بذريعة أنه ليس من اللائق أن نجرح مشاعر الآخرين! ذلك أن الحقيقة جارحة بطبيعتها، ويتطلب من مقترفها أن يكون انتحاريا ومستعدا لتحمل تبعاتها من نبذ وتهميش وتجريح وتشويه أحيانا. وتتطلب من متلقيها سعة صدر وتفهم ورغبة حقيقية في اجتراح الأفضل، وعدم الركون والاطمئنان إلى وهم التحقق الكاذب. وهذا كله يتطلب فضاء ثقافيا أكثر نظافة وشفافية وجدية وحزما وغيرة على الإبداع، باعتبارها قشة النجاة الأخيرة.
تتحكم العلاقات والحسابات الضيقة في مسار الحركة الثقافية التي غدت بيئة طاردة لكل صاحب مشروع حقيقي، ينفر مما يتهافت عليه كثر، ينأى بنفسه متشبثا بنقائه وبراءته، متصالحا مع الحقيقة، مفضلا التعاطي مع النصوص بمعزل عن أصحابها، يبتعد زاهدا بذلك الصخب المفتعل. ومن المؤكد أن هذا النموذج النادر لا يرتضي لنفسه أن يدعى إلى مؤتمر أو ملتقى في بلد ما، ويتقبل هدايا الزملاء من الإصدارات ثم يتركها في غرفة الفندق، بذريعة أنها ترتب كلف شحن إضافية. ومن المستحيل أن يقول لكاتبة عديمة الموهبة يجري تلميعها، على الرغم من أنها لا تحسن فك الخط، لكنها تتمتع بقدر معقول من الجمال، أنت شاعرة عظيمة، أفكر في كتاب يتناول تجربتك الثرية. تختال المسكينة غرورا، لأن كاتبا كبيرا اعترف بها، وسوف يأخذ بيدها إلى طريق المجد والشهرة والجوائز والأمسيات الشعرية، وهي تجهل تماما أن ديوانها موضع فخرها واعتزازها، استقر في سلة القمامة غير مأسوف عليه.
قالت لي صديقة تعمل طبيبة، وهي قارئة مثابرة، تلاحق كل جديد في عالم الأدب، إنها لم تعد تحب المثقفين، وترى أنهم انتهازيون، لديهم قدرة عجيبة على تزوير الحقيقة، وتبرير الرذيلة، بدليل اصطفاف بعضهم خلف الطغاة قتلة شعوبهم، وهؤلاء يشكلون نسبة ليست قليلة. تمنيت لو أستطيع مخالفة الطبيبة في رأيها، لكن ذلك كان سيكون خيانة كبرى للحقيقة. وبانتظار ما قد يسفر عنه غربال الزمن الذي أشارت إليه الصديقة خريس، ليس لدينا سوى التأمل في المشهد البائس عن بعد، وذلك من باب أضعف الإيمان.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.