إيران وضرورة استعادة ثورتها المسروقة

إيران وضرورة استعادة ثورتها المسروقة

08 ابريل 2018
+ الخط -
مثل كل نظام استبدادي وشمولي بطبيعته وطبعه وتطبعه، كما وبانحيازاته الثيوقراطية، قدم النظام  الإيراني نموذجا "مبهرا" في عدائه السياسة، وأراد دفع الشعب الإيراني لتقديس سياساته ومرجعياته المعتمدة من شخص "الولي الفقيه"، فمنذ عام 1979 ونهر الثورة المتدفق والجاري في إيران يوغل في انحرافاته باتجاه مسارب أخرى، غير التي أرادها الشعب الإيراني مآلا أخيرا لثورته، وبما يجعلها تتوافق ومطالبه وتطلعاته نحو إقامة نظام سياسي عادل، يساوي بين الإيرانيين كافة؛ مواطنين في دولة مدنية مواطنية، تكفي مواطنيها شرور الفاقة والفقر والعوز، وتداعيات الفساد، وتقلبات نظام أوامري يتعالى على شعبه، ويتجاهل حقوقه ومطالبه في الحرية والكرامة والعدالة. فيما هو يجيّش المليشيات المذهبية في الإقليم، ويلعب على وتر اهتزازات استقرار عديد من دوله، ويتجاوز الشرائع والقوانين لمصالح أنانية خاصة؛ مذهبية من جهة، وقوموية ذات نزوع إمبراطوري من جهة أخرى.
لهذا لم تحقق ثورة الإيرانيين مبتغاها وأهدافها التغييرية والتحديثية المعاصرة بعد، وكل ما تحقق كان مجرد قشور ثورة مضادة، انتكست بالثورة خطوات كبرى إلى الوراء، منذ تمكن الثيوقراطيون من الاستيلاء على مركب الثورة، وسلب الشعب الإيراني وقواه التغييرية كل الثمار التي كان يمكن لعملية إطاحة الشاه، أن تكون طوع بنان الأكثرية الكاثرة من الشعب الإيراني، لكن اتجاهات الملالي وتوجهاتهم، لم تكن لتحقق غير استبدال النظام السياسي بنظام ديني، توج هيمنته الديكتاتورية شبه المطلقة بابتداع "ولاية فقيه" مطلقة، وسياسات اقتصادية واجتماعية مغرقة في التخلف تنزع إلى اللاعدالة، ولا تحقق أي مستوىً من التكافؤ في الفرص، بالاضافة إلى إهمال الداخل والاهتمام والصرف على برامج تسليحية هائلة، كذلك هناك "رؤية" لا وطنية، تنحاز دائما بالتطلع للاهتمام بالخارج الإقليمي، والتدخل في شؤون مذهبية خالصة، دعما لنزعات ونزوعات إيرانية خاصة، أوردت الإقليم كله موارد تهلكة فتنوية، لن يكون من السهولة فكفكة تشابكاتها في ظل هذا النظام، وذلك كله على حساب الشعب الإيراني، بكل قومياته وإثنياته وطوائفه المظلومة.
كشفت الهبة الجماهيرية أواخر العام الماضي، كما "الثورة الخضراء" قبل تسعة أعوام، الوجه 
القمعي للنظام، على الرغم من اعتراف بعض أركانه بمظالم الوضع الاقتصادي، واستفراغ الوضع السياسي من كل مقومات السياسة. وصولا إلى ما أعلنه الرئيس الإيراني، حسن روحاني، أخيرا، من أن "القادة الإيرانيين قد يواجهون مصير الشاه الإيراني الأخير نفسه، إذا استمروا يتجاهلون الاستياء الشعبي". وأخذ روحاني، في خطاب متلفز، على جميع قادة البلاد عدم الاستماع لمطالب الشعب وتمنياته، ولأن الشاه لم يسمع نصائح الشعب، ولم يسمع أصوات الإصلاحيين والمستشارين والأكاديميين والنخبة والمثقفين وانتقادات المواطنين، فقد كل شيء، وذلك نوعا من الإسقاط على الوضع الحالي الأكثر شبها بتلك الأيام.
وكانت وسائل التواصل الاجتماعي قد تناقلت، في أعقاب الهبة الشعبية أخيرا، صور عشرات النساء يتظاهرن في طهران بشكل فردي في الشارع، احتجاجاً على قرار فرض الحجاب في الأماكن العامة. في حين فاقمت الاضطرابات التوترات في صلب النظام الإيراني بين الرئيس والمؤسسات الأخرى التي يديرها المحافظون المتشددون الذين ينددون بسياسة روحاني المنفتحة.
وفي حين يدعو روحاني (المحافظ المعتدل) الذي أعيد انتخابه رئيساً في مايو/ أيار من العام الماضي بدعم من الإصلاحيين، بانتظام إلى مزيد من الحقوق المدنية في إيران، إلا أن أصواتا عديدة كانت تأمل تحقيق تغييراتٍ، أصبحت بواسطته تعبر عن خيبتها، ذلك أن النظام في إيران، وكما أثبتت سنوات ما بعد الشاه، ليس نظاما رئاسيا أو برلمانيا، ولا هو نظام مدني، بقدر ما هو نظام ثيوقراطي محكوم لمرجعية "الولي الفقيه" السياسية والاجتماعية والتشريعية، يعاونه في ذلك "الحرس الثوري" بهيمنته الاقتصادية والمالية على البلاد. وفي هذا السياق، يشار إلى أن الزعيم الأعلى (خامنئي) هو رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية، وهو الذي يعين رؤساء الهيئة القضائية. ويتم اختيار الوزراء الرئيسيين بعد موافقته عليهم، وهو صاحب القول الفصل في شؤون السياسة الخارجية والبرنامج النووي.
وفي تحذير آخر أكثر عمقا، وأشد نقدا للولي الفقيه، قال مهدي كروبي، وهو زعيم إيراني معارض قيد الإقامة الجبرية، في رسالة نشرت أخيرا، إن على الزعيم الأعلى، أية الله علي خامنئي، تحمل مسؤولية الصعوبات الاقتصادية والسياسية التي تواجه إيران، بدلا من إلقاء اللوم على آخرين.
كذلك، ما بلغه الوضع الإيراني من اهتراء شامل، دفع الرئيس الإيراني الأسبق، محمود أحمدي نجاد، وفي رسالة بعثها إلى المرشد الإيراني، علي خامنئي، للتحذير من أن استياء الشعب الإيراني من إدارة الدولة بلغ ذروته. حيث يمس هذا الانزعاج ما أسماها "أساسيات الثورة"، متهما السلطات القضائية والأمنية بظلم الشعب.
ونشر موقع "بهار نيوز" الإخباري، المعروف بقربه من نجاد، رسالتين بعثها الأخير إلى خامنئي في 13 فبراير/ شباط وفي 13 مارس/ آذار الماضي. أشار فيهما إلى المشكلات الاقتصادية التي تشهدها البلاد، والضغوط التي تمارس على الشعب بدواعٍ أمنية، وأن إدارة البلاد لا تتمتع بالشفافية. وبيّن "أن الأشخاص الذين يريدون بيع كِلاهم بسبب الفقر يصطفون بالطوابير"، لافتاً إلى أن العمال، والمتقاعدين، والفلاحين، في وضع اقتصادي منهار. وأضاف أن هناك طبقة من السياسيين والأغنياء يستفيدون من إمكانات الدولة، وأن هذا الوضع قضى على ثقة الناس بالعدالة الاجتماعية، ونشر فكرة الشعور بالتمييز بين الشعب. لكن هذا التمييز بات سلوكا عنصريا فاقعا ومكشوفا، قوميا ومذهبيا وفئويا وطبقيا، وآخر سرديات القمع التمييزي ما جرى في الأهواز أخيرا، حين شنّ الأمن الإيراني هجومًا على المتظاهرين الذين خرجوا أياما متتالية احتجاجًا على العنصرية المعادية للعرب، وسياسات التمييز والاضطهاد القومي ضدهم.
وكانت هذه الاحتجاجات قد بدأت في أواخر مارس/ آذار الماضي تنديدًا ببرنامج تلفزيوني 
مهين لعرب الأهواز، حيث تجمع آلاف أمام مبنى هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية في الأهواز، وطالبوا بتقديم اعتذار للشعب العربي الأهوازي، على خلفية تقديم برنامج تلفزيوني خاص بالأطفال، تحت عنوان "كلاه قرمزي"، بثته القناة التلفزيونية الثانية الرسمية، بمناسبة أعياد رأس السنة الإيرانية "النوروز"، تضمن فقرة استعراضية دعائية، تتجاهل الوجود العربي بشكل كامل في منطقة الأهواز ذات الأغلبية السكانية العربية، وعرض دميةٍ ترتدي زيا يتبع القومية اللورية المهاجرة إلى الإقليم، بينما تم تعريف كل الأقاليم القومية الأخرى بأزيائها المحلية.
وبينما لم تحرك السلطات ساكنًا، استمرت المظاهرات في مدن مختلفة من الإقليم، ونددت بـ "الإساءات المتكرّرة في التلفزيون الإيراني ضد العرب". ثم تطورت المظاهرات، لتشمل رفع شعارات تستنكر الاضطهاد القومي والتمييز العنصري وسياسات التغيير الديموغرافي في الإقليم، ومحاولة السلطات إسكان المهاجرين، وإعطاءهم كل المناصب والسلطات على حساب تهميش العرب وتحويلهم من أكثرية إلى أقلية في موطنهم. ومثل كل الأنظمة التي يعتّقها الاستبداد، لتحمل معها كل جينات الموات أو الشيخوخة وبذوره، لم تحمل السنوات التسع والثلاثون الماضية سوى تطورات سلبية، انعدمت فيها إمكانات تطور ديمقراطية شعبية أو برلمانية، وحلت مكانها ديكتاتورية "الولي الفقيه"، ونمت في ظله سلطات مطلقة، لم تحرز جراء سياساتها سوى الخيبة والسخط ومزيد من الانقسامات بين أهل السلطة أنفسهم، وبينهم وبين شعبهم، كما بينهم وبين الشعوب والقوميات الأخرى، ولم يكن بلا مغزى لجوء السلطة إلى "شارعها" في مواجهة "شارع" الشعب، في لجوئه إلى الانتفاض والهبات الشعبية، الهادفة، وبشكل دائب، إلى استعادة توجيه نهر الثورة المسروقة، وتصويب مساراتها في الاتجاه الصحيح: ضرورات التغيير والثورة.
47584A08-581B-42EA-A993-63CB54048E47
ماجد الشيخ

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لبنان. مواليد 1954. عمل في الصحافة الكويتية منذ منتصف السبعينات إلى 1986، أقام في قبرص، وعمل مراسلا لصحف عربية. ينشر مقالاته ودراساته في عدة صحف لبنانية وعربية.