مسيرات العودة أداةً سياسية

مسيرات العودة أداةً سياسية

07 ابريل 2018
+ الخط -
أطلق غاندي، في عام 1930، مسيرة الملح الشهيرة بدعوته ملايين الهنود لاتباعه حتى الوصول إلى البحر لصناعة الملح. كانت الحركة احتجاجاً سلمياً على القوانين البريطانية الظالمة التي تحتكر الملح، وتعاقب بالحبس من يُضبط متلبساً بجريمة صناعتة.
دفع الهنود ثمناً ضخماً تمثل في 89 ألف مسجون على الأقل، ولم تسفر المسيرة نفسها عن أثر درامي فوري، لكنها على المدى الأبعد كانت خطوةً رئيسيةً في استقلال الهند، وأيضاً إلهام حركات وقادة معاصرين عديدين، مثل مارتن لوثر كنغ الذي قاد لاحقاً مسيرة الحقوق المدنية إلى واشنطن.
وفي بلادنا العربية، تجربة مسيرة سلمية أخرى، هي المسيرة الخضراء في المغرب، حين أطلق الملك الحسن الثاني دعوته إلى مسيرة لاستعادة الصحراء الغربية من الاحتلال الإسباني. حين تعاظم تكاثف الدخان، واحتشد نحو 350 ألف مغربي، تراجعت أسبانيا أخيراً، وهكذا تم انهاء المسيرة يوم 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 1975 بناء على طلب الملك، لأنها حققت أهدافها، وفورا في 14 من الشهر نفسه، وقعت المغرب وموريتانيا وإسبانيا اتفاقية أعادت إلى المغرب إقليمه الجنوبي.
في هذا السياق، تأتي أهمية مسيرات العودة الفلسطينية التي تلوح لإسرائيل بكابوس أن تستيقظ يوماً على زحفٍ مليوني سلمي كاسح.
أثير جدل واسع بشأن جدوى المكاسب المتحققة بالمقارنة بارتفاع الثمن المدفوع، وحول إن كان يجب أن ترد الفصائل المسلحة بالنيران والصواريخ.
بالطبع عشرون شهيداً خسارة هائلة، ويجب ألا نعتاد التهاون مع أرواح البشر كأرقام، لكن الإشكالية هنا أن هذه الطريقة المباشرة في حساب المكاسب والخسائر ستعني أن الخيار (العقلاني) هو التسليم الكامل للعدو الأقوى بما لا يقاس، وفي النهاية، خسائر أي حرب سابقة على المدنيين هي أضعاف أضعاف خسائر هذه المسيرات، وأيضاً من دون نتيجة مباشرة، كتحرير جزء من الأرض مثلا.
لكننا في الحالتين نتحدث عن نتائج تراكمية على مدى أطول، وعن كليهما باعتبارهما أداة سياسية لها نتائج، ومن هذه الزاوية كانت المسيرات مفيدة للغاية.
أولاً، استعادت صورة الشعب المحتل المقاوم بديلاً عن الصور النمطية القادمة من غزة لمسلحي حركة حماس الملثمين مطلقي الصواريخ. رسالة إلى الداخل والخارج: نحن هنا. غزة ليست مكاناً لـ "حماس" فقط كما تروج إسرائيل، بل فيها بشر يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ويحلمون بالعودة ويموتون لأجلها. والضغط على السلطة لتمرير "صفقة القرن" ليس كافياً حتى لو وافق محمود عباس في إطارها على إسقاط حق العودة، لأننا، نحن العائدون يوماً، هنا.
على صعيد ثانٍ، أعادت المسيرات للواجهة سؤال حق العودة باعتباره أحد الأسئلة الرئيسية في القضية، بعد فترة طويلة من الغرق في قضايا تفصيلية، كتمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) وغيرها، وأيضاً بعد تراجع قضية فلسطين بشكل عام بسبب الأوضاع الإقليمية التي يسقط في حروبها ضحايا أكثر. الرسالة مرة أخرى: نحن هنا. المشاركون في المظاهرات كان أغلبهم من الشباب الذي لم يشهد التهجير، لكن حق العودة كالدم يُورث.
لكن، على صعيد مستقبلي تحتاج إدارة استراتيجيات العمل الفلسطيني إلى رؤية أكثر شمولاً وتنظيماً، متى يتم إطلاق نداء الزحف الشعبي السلمي بصورة أوسع، وليس في غزة فقط؟ ومتى يتم استخدام الخيار المسلح بأقصى مداه؟ كيف يتم تعظيم أكبر استفادة سياسية من السلاح أو من السِلم؟ وكيف يمكن استغلال حالة الزخم الكبير في الإعلام العالمي في التواصل المُخطط مع الجهات الدولية، خصوصا غير الرسمية منها، وبخطاب مناسب يشرح القضية لأجيال جديدة لم تعاصرها، ما يساعد في توسع حملات المقاطعة الأكاديمية والتجارية.
هذا هو المطلوب حقاً كي تصبح دماء الشهداء جزءاً من تراكم مكاسب سياسية يُبنى عليها. ولا بديل للوصول إلى هذه الحالة من العمل المنظم إلا بتطوير المشروع الفلسطيني ديمقراطياً، بخطواتٍ مثل توسيع منظمة التحرير بتمثيل عادل، وإنجاز المصالحة المتأخرة والانتخابات النزيهة المعطلة منذ سنوات. ولعل زحف العائدين، كما ينذر إسرائيل في الخارج، ينذر آخرين في الداخل.