ترامب مالئ الشاشات وشاغل الناس

ترامب مالئ الشاشات وشاغل الناس

07 ابريل 2018
+ الخط -
ترك الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مستشاريه ومساعديه وكبار موظفي الإدارة، في حالة حيرة شديدة، يومين حين أعلن عن قراره سحب القوات الأميركية من سورية. ولأن القرار لم يلق قبولاً من أحد في المؤسسات المعنية بالقرار في البنتاغون (وزارة الدفاع) ووكالة الأمن القومي، فقد تراجع ترامب جزئيا، ووافق على استمرار الوجود الأميركي في ذلك البلد، ولكن ليس إلى أمد طويل. والتفسير الذي ساقه لقراره المفاجئ "أن دولاً أخرى تستفيد من وجودنا هناك"، وكأن عدم استفادة أي طرف آخر وحده ما يجعل ذلك الوجود مبرّراً! وهو منظور ضيق، قد يصلح لعالم البزنس والتجارة، لكنه عديم الصلة بعالم السياسة والعلاقات بين الدول. فمن الطبيعي أن هناك انعكاسات إيجابية أو تداعيات سلبية، بعيدة المدى على الآخرين لأية قرارات أو سياسات تتخذها الدول، وخصوصا الكبيرة منها. والمهم خلال ذلك أن الرئيس ترامب يتخذ قراره، ويعلن عنه على الملأ في مناسبةٍ عامة، ثم يعكف، مع مستشاريه ومساعديه، على تفحص ما إذا كان القرار المعلن صائباً ومفيداً أم لا! وهذا النمط من الارتجالية والتجريبية الفجّة، يلمسها المتابعون في إدارة الشركات العائلية، حين يتصدّرها مثلا، وعلى حين غرّة، وريثٌ لأصحاب رأس المال، لا سابق خبرة له في إدارة الشركات. وقد برهن الرئيس ترامب، القادم إلى البيت الأبيض من عالم البنوك والشركات العقارية الكبيرة، أنه لا يرى كبير فرقٍ بين قيادة الدول وقيادة شركة. فالآخرون الجيدون هم من يدفعون بسخاء، نظير تقديم ما يعتبره ترامب خدمات أميركية لهم، بما يجعلهم في مرتبة شركاء أو حلفاء تجاريين، وليس في عداد دول صديقةٍ، تجمعها ببلاده مصالح كبيرة ورؤى استراتيجية متوافقة. وقد اكتشف ترامب أن السعودية تستفيد سياسياً من الوجود الأميركي في سورية لمواجهة النفوذ الإيراني هناك، والسعودية ثرية، إذن عليها أن تدفع كلفة هذا الوجود. ولو لم تكن هناك دول تستفيد من هذا الوجود، السعودية أو غيرها، لكان استمرار الوجود أمدا طويلا هناك منطقياً.
لا يتحدث ترامب، ولن يتحدث، عن الخدمات الأميركية لإسرائيل، والتي تشمل كل شيء، 
وصلت إلى حد "إهدائها" القدس  العربية المحتلة. ذلك أنه يعرف أن هذه ضريبة كبرى على كل مرشح للرئاسة أو رئيس، أن يجعل الناخبين ودافعي الضرائب يدفعونها، من أجل أن تسير "الحياة الدستورية والعملية الديمقراطية" بسلاسةٍ، وبغير منغصات. وقد أثبت ترامب أنه ليس مؤيدا لدولة أخرى هي إسرائيل، بل إنه يحمل ولاء لها، ويلتزم بأن تكون سياسة بلاده وإدارته هي سياسة تلك الدولة حرفيا. وكان، في مطلع حملته الانتخابية، قد أبدى رغبته بالوقوف على الحياد في الصراع العربي الإسرائيلي، حتى همس له مستشاروه بأن الوقوف مع تل أبيب في كل شيء، أخطأت أم أصابت، هو الموقف الصحيح انتخابيا وسياسيا، وإلا فإن اللوبي الكبير داخل البلاد سوف يقوم بتخريب فرص الفوز وفرص البقاء في البيت الأبيض بعد الفوز.
أما مع روسيا، فإن الرجل واثقٌ أنها لم تتدخل في الانتخابات الرئاسية، أيا كانت نتائج التحقيقات وعمليات التقصي. وليس معنى ذلك أنه يحب روسيا، بل إنه لا يحبها، لكنه يرتاح إلى الرئيس فلاديمير بوتين. وعلى الرغم من أن العلاقات قد تدهورت بين واشنطن وموسكو، إلا أن الترتيبات لعقد قمة قريبة مع بوتين جارية، جنباً إلى جنب مع التفكير بفرض عقوبات جديدة على روسيا، إثر عمليات الطرد المتبادل لعشرات الدبلوماسيين من البلدين، فالرئيس بوتين شيء وروسيا شيء آخر.
مع الصين، يعتقد ترامب أن الولايات المتحدة ستفوز بسهولة في أي حربٍ تجارية مع التنين الأصفر. لكن أحداً في بلاده من المختصين لا يوافقه الرأي، فرفع الرسوم الجمركية على عشرات السلع والمنتجات الرئيسية الصينية بنسب تتراوح بين 10% و25% سيؤدي، وقد أدى، إلى قرار صيني مماثل بخصوص السلع الواردة من أميركا، ما سيؤدي، في نهاية المطاف، إلى تخفيض الصادرات بين البلدين، ومن دون أن يسد العجز التجاري الأميركي (تستورد الولايات المتحدة ما قيمته 505 مليارات دولار من المنتجات الصينية مقابل 130 مليار دولار قيمة المنتجات الأميركية التي تستوردها الصين). وبالتالي، ارتفاع أسعار السلع المستوردة، ثم التأثير على استقرار الوظائف وفقدان آلاف منها، فيما تبرع الصين في فتح أسواق جديدة لمنتجاتها في شتى أنحاء المعمورة، وتقوم بمرونة بتدوير البطالة، لو وقعت في صفوف عمالها.
والمشكلة مع ترامب أنه يرغب بتنفيذ ما حفلت به حملته الانتخابية من وعود، حتى لو قيلت على سبيل عفو الخاطر، ولمجرد إرضاء النزعة الوطنية للناخبين. فيما كانت أميركا ستحقق نتائج أفضل لو اقتصر خلافها مع الصين على حقوق الملكية الفكرية للمنتجات، بدلا من سياسة الإغلاق التي تتناقض مع مفاهيم التجارة الحرة في بلد العولمة الأول، وهو أميركا.
لم تتردد صحافة الصين التي تعكس عادة آراء الدولة في وصف ترامب بأنه "عديم الخبرة 
ودبلوماسي مبتدئ"، فيما يتطير الأوربيون من نذر حرب تجارية قد تنعكس عليهم، إذا ما أصبح الاحتكام إلى الحرب هو السائد في العلاقات التجارية، غير أنه من الواضح أن الولايات المتحدة دخلت في مرحلةٍ يقودها فيها غير السياسيين، ممن يصلون إلى البيت الأبيض. وكان الرئيس السابق، باراك أوباما، بنزعته الأخلاقية، نموذجا لهؤلاء، فقد قامت سياسته على عدم التضحية بجندي أميركي واحد، ولو أدى ذلك إلى التضحية بالاستقرار العالمي، وبمصالح أميركا نفسها. أما الرئيس الحالي ترامب، فما زال، وهو في البيت الأبيض، يعيش في أجواء العمل في الشركات والبحث عن تحقيق أكبر أرباح مالية ممكنة. ولهذا، لم يعد لدى أميركا (كما روسيا) ما تخاطب به العالم والبشرية، ما دامت المصالح القومية الحسية، المباشرة والضيقة، هي ما يحكم توجهات البلدين الكبيرين. وهو ما يجعل السياسة الدولية، في زمننا هذا، خالية من المعنى، وخاوية من أية رسالة، خلافاً لما كان عليه الحال إبّان انقسام العالم إلى معسكرين، فذلك الانقسام، على سيئاته، كان يحوز على معنى، وعلى التبشير بقيم ورؤى اجتماعية وسياسية تتجاذب اهتمام البشرية، وتحفّزها في هذا الاتجاه أو ذاك.