عن إعلان سياسي إلى الرأي العام الفلسطيني

عن إعلان سياسي إلى الرأي العام الفلسطيني

01 مايو 2018
+ الخط -
تفيد مصادر بأنه طبع في القدس، في مطبعة جورج حنانيا وحدها، ما يزيد عن 280 كتابا، بين عامي 1892 و1909. يعكس ذلك مدى حجم التراكم الثقافي الذي انطلق في فلسطين مع مطلع القرن العشرين. ولم يسع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين في العام 1948 إلى طمس معالم الجغرافيا والتاريخ، بل أيضا، معالم الثقافة الفلسطينية. وترك الفلسطينيون وراءهم في ذلك العام ما أنتجوه ثقافيا طوال عقود.
بقيت الإسهامات الثقافية الفلسطينية جهودا فردية مشتتة بين الأراضي المحتلة وبلدان اللجوء، تطورت بوصفها جزءا من ثقافة عربية قومية متعاطفة مع القضية الفلسطينية. وبدأت عملية مأسسة المنتج الثقافي الوطني مع انطلاق الحركة الوطنية الفلسطينية، ممثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية، وعملت تلك الثقافة مع المشروع السياسي الوطني على بلورة الشخصية الوطنية الفلسطينية. ولم يكن الكفاح في المستوى الثقافي أقل أهميةً من الكفاح في المستويين، السياسي والعسكري، لذلك لم تطاول يد الاغتيال الإسرائيلية رموز الفلسطينيين السياسية والعسكرية فقط، بل رموزهم الثقافية أيضا.
ارتباط الإنتاج الثقافي الفلسطيني بالعمل الوطني، السياسي والعسكري، جعله يتأثر بشكل عميق بنجاحات المشاريع النضالية السياسية والعسكرية وإخفاقاتها. وشهدت المؤسسات الفلسطينية انتكاسة حادة بعد هزيمة قوات الثورة الفلسطينية في بيروت العام 1982، وتوقفت أهم المؤسسات الثقافية الفلسطينية التي تركزت هناك، قبل أن يستأنف بعضها العمل مجددا.

كان تسييس الثقافة الفلسطينية يبني في مجال ليهدم في مجال آخر، فمن جهة، لعب دورا في عملية المأسسة المطلوبة لإطلاق المشاريع الثقافية الوطنية، لاسيما في ظروف الشتات، وغياب ديمغرافيا موحدة، تميزت مع ذلك بحراكٍ ثقافي فاعل، حيث ضاقت المسافة بين الثقافتين، النُخبوية والشعبية، وكان للحالة الفصائلية والحزبية دور في ترويج مثقفين عديدين كانوا قياديين وأعضاء عاملين في الفصائل الفلسطينية، وفي حضورهم الفاعل جماهيريا.
من جهة أخرى، أدى التسييس إلى وقوع الثقافة الفلسطينية في النمطية والمباشرة، وجعلها عرضةً للصراعات الأيديولوجية والحزبية، والولاءات المتضاربة على الساحة الفلسطينية وخارجها، ما حول جانبا كبيرا منها إلى ثقافة تبريرية، وتكيفية، للتوجهات السياسية وتحولاتها (اتحادات الكتاب الفلسطينية نموذجا).
انتهى استثمار أسلوب الكفاح الشعبي الذي قنن نضال الشعب الفلسطيني، وحيّد الآلة العسكرية للاحتلال الإسرائيلي، ممثلا بالانتفاضة الفلسطينية الأولى، عند اتفاق أوسلو، حصل الفلسطينيون بموجبه على حكم ذاتي محدود، أسس لاحقا إلى تصدّع الإجماع على المشروع الوطني الفلسطيني، وأسس لأزمة انقسام حاد بين مساري العسكرة والمفاوضات.
تناست العسكرة أن القواعد الآمنة عسكريا بحاجةٍ إلى قواعد آمنة سوسيولوجيا، عبر بناء كيانات الشعب الفلسطيني الاجتماعية، وتعزيز مقومات صموده، وصادرت خياراته الكفاحية الشعبية القادرة على تقنين إمكاناته، لتصرّ على تحميله أكثر مما يحتمل في محيط إقليمي، لم تعد فيه القضية الفلسطينية مركزية.
أما نهج التفاوض ونتائجه، فأجحف حقوق الشعب الفلسطيني، وتناسى أوراق القوة ممثلة في خيارات الشعب الكفاحية التي بإمكانها أن تفرض على طاولة التفاوض حلولا عادلة. أما الخلط الإداري والسياسي بين السلطة الوطنية ومنظمة التحرير، فعطل المنظمة ومعها المجلس الوطني الفلسطيني، ما أفقد فلسطينيي الشتات، خصوصا، تمثيلا حقيقيا وفاعلا.
على الرغم من حالة الاستعصاء السياسي في عموم الساحة الفلسطينية، وانعدام فعالية الكيانات والمؤسسات السياسية، لاسيما الثقافية منها، يوفر التماس المباشر مع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطينيي الداخل فرصة للحراك الشعبي الجماهيري، حين تتهيأ ظروفها، بينما يفقد فلسطينيو الشتات فرصة المبادرة والحراك، في انتظار عودةٍ يرونها أصبحت بعيدة، في ظل غياب أي مشروع سياسي يخصهم، في بلدان لجوءٍ عصفت بها الاضطرابات، ودُمرت فيها مخيماتهم، وكياناتهم الاجتماعية بعد المؤسساتية.
بسيطرة السياسوية، غابت المبادرة الجماهيرية وتغيب الرأي العام، وأسباب ذلك في انعدام دور المؤسسة الثقافية والمثقف الفلسطينيين، في التأثير في مجرى الأمور، خارج الحالة الفصائلية التي توفرت سابقا. ومع تعمق هوةٍ كانت فلسطينيا في حدها الأدنى، بين الثقافتين الشعبية والنُّخبوية، تسيطر الشعبوية، ويغيب التفكير النقدي، ما كرّس شرخا عكس الانقسامات السياسية بين أبناء الشعب الواحد الماضي جميعه إلى مجهول، ليس في موقفهم من قضيتهم، والخطوط العامة لمشروعهم الوطني وحسب، بل أيضا في مواقفهم من أحداثٍ متسارعةٍ تجري حولهم في محيط إقليمي مضطرب.
في حالة الاستعصاء السياسي والنضالي العام، ليس لنا إلا التعويل على الثقافي، لتطوير رأي عام فلسطيني، عبر إطلاق حوار وطني واسع ومسؤول، حول سبل مواجهة التحديات الراهنة الَّتي يُهَدِّد استمرارها حاضر الشعب الفلسطيني ومستقبله وقضيته، ولبلورة رؤى ومواقف
سياسية تعيد للفلسطينيين إجماعا على مشروعهم الوطني. من هنا، تأتي مبادرة مجموعة من المثقفين، والأكاديميين الفلسطينيين، لتشكيل ملتقىً يكون بمثابة "منبر يحاول التَّعبيرَ عن حُقُوقِ الشَّعبِ الفلسطينيِّ، وتطلعات أغلبيته".
لم تتبنّ المبادرة في بيانها التأسيسي (بيان سياسي إلى الرأي العام الفلسطيني) حلولا ناجزة ونهائية، بل دعا البيان إلى مراجعةٍ نقديةٍ مسؤولة للتجارب التي تضمَّنتها مسيرة النضال الفلسطيني عبر جميع مراحلها التي وصلت اليوم إلى طريق مسدود، تبني على منجزاتها وتتلافى سلبياتها. لكن البيان رفض الحلول الجزئية، وحلولا توفر حقا لجزء من أبناء هذا الشعب يكون ثمناً لحصول جزءٍ آخر منه على بعض حقوقه.
اقترح البيان خطواتٍ إجرائية توفر شروطا مناسبة لصوغ رؤى وخيارات وطنية، تكفل إعادة بناء الكيانات والمؤسسات الفلسطينية، و"انتهاج خياراتٍ كفاحية، جديدة ومغايرة، تتأسس على الواقعية والعقلانية، والتمسّك بقيم الحرية والحقيقة والعدالة التي توازن بين الواقع والطموح، والإمكانات والرغبات، والعامليْن الداخلي والخارجي، من دون أن يجحف أحدهما بالآخر".
رأى المبادرون في قضية الفلسطينيين قضية أساسية للعالم العربي بأسره، وأنَّ "التَّحررُ الفلسطيني المُتحقِّق عبر النضال المُفضي إلى تقويض المشروع الصَّهيوني، هو جزء لا يتجزَّأ من مسارات النَّضال التحرّري في البلدان العربية النَّاهضة شعوبها ضدَّ الاستبداد الدَّاخلي والهيمنة الإمبريالية، وفي سبيل الحرية والمواطنة والدِّيمقراطية والعَدالة".
لسنا أمام إطار تنظيمي جديد في الساحة الفلسطينية، بل مبادرة تصنف نفسها جزءا من جملة حِرَاكات شعبية في أوساط الشعب الفلسطيني، في كل أماكن وجوده، تحاول الاستفادة مما منحته وسائل التكنولوجيا والتواصل الاجتماعي من فرصٍ تتجاوز، في الحالة الفلسطينية، ظروف الشتات والانقسامات السياسية والجغرافية. نأمل أن تجتاز تلك المبادرة بحكم استقلاليتها، وحرص المبادرين على تلك الاستقلالية، نقطة انطلاق صحيحة تتغلب على الصعوبات الراهنة والمحتملة، علّها تكون فرصةً لتثقيف السياسة بعد عقود من تسييس الثقافة.
حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.