انتخابات لبنان على وقع ملايين الدولارات

انتخابات لبنان على وقع ملايين الدولارات

01 مايو 2018
+ الخط -
لا صوت يعلو فوق ضجيج الانتخابات في لبنان. الكل مشغول في ترتيب أموره، وتركيب لوائحه، ومحاولة خطف صوت الناخب "بالحلال أو بالحرام" على ما يقول المثل الشعبي. كل الوسائل مسخرة لانتزاع أكبر عدد من المقاعد، والسيطرة على المجلس النيابي الجديد، وأولها قانون الانتخاب، وليس آخرها عنصر المال الذي شوه العملية الانتخابية وحرية الاختيار. قانون الانتخاب غريب عجيب وفريد من نوعه، قانون مسخ أدخل مبدأ النسبية بشكلٍ دفع كل حزب أو طرف سياسي إلى التحالف مع قوى أخرى، والتنافس معها في الوقت عينه، فهو منع الترشح الإفرادي، وأجبر المرشح نفسه على أن يحارب حتى شريكه في اللائحة المقفلة نفسها، لأنه فرض على الناخب صوتا تفضيليا واحدا. وفرض بالتالي تحالفاتٍ هجينةً لا يجمع بينها لا برامج سياسية، ولا حتى مواقف مشتركة، وإنما هي غالبا مجرّد تحالفات انتخابية بين أضداد من أجل الوصول، وبعدها كل في طريقه. ما يجمع طرفين في لائحة واحدة هو السعي إلى تأمين الحاصل، أي عتبة التمثيل أو النسبة المئوية المطلوبة للدخول إلى البرلمان، والتي تبلغ 10% وأحيانا أكثر. وهو حاصل مرتفع جدا، لا مثيل له في كل القوانين المعتمدة في العالم، وهو قسمة عدد المقترعين على عدد المقاعد المخصصة للدائرة. وبما أنه لا يمكن لطرفٍ أن يجمع الحاصل بمفرده، فهو مضطر للتحالف مع فريق آخر، كي يحققا معا مجموعة حواصل، تؤمن لهما عددا موازيا من المقاعد. وعند تأمين الحواصل، تتحول المعركة إلى داخل اللائحة بين المرشحين المتحالفين أنفسهم، وخصوصا إذا كانوا من الحزب نفسه، لأن النجاح سيكون من نصيب من حصل بالترتيب على أكبر عدد من الأصوات التفضيلية.

وقد أدّى واقع الحال هذا إلى تصويب الأحزاب نارها على المرشحين المستقلين، وإجبارهم على الانضواء تحت عباءتها، أو الخروج من المنافسة، بهدف انتزاع أصواتهم. الهدف هو الهيمنة على أكبر عدد من المقاعد والاستئثار بالقرار السياسي، إذ شكل السياسيون المستقلون على الدوام ظاهرة منتشرة في دوائر عديدة، وراسخة في المجلس النيابي والحياة السياسية في لبنان منذ الاستقلال. فالعديد منهم يشكلون زعامات محلية أو مناطقية قائمة بذاتها، معظمها متوارثة عن إقطاعيات وعائلات نافذة، عصبها الخدمات الخاصة والأهلية، وشخصيات لعبت دورا مفصليا في تاريخ لبنان واستقلاله، ومنها من يوازي دوره حزبا في محافظة أو منطقة معينة. ولم تتمكن الأحزاب القديمة أو الجديدة، التقليدية أو العقائدية، من إلغاء دورها على مدى عقود ما قبل الحرب الأهلية، ولا حتى التي حلت محلها بعد الحرب، والتي تؤجج العصبية الحزبية، وتلعب بقوة على العامل الطائفي والمذهبي والفئوي، بعكس الأحزاب التي طبعت مرحلة الاستقلال. يومها كان الصراع سياسيا بامتياز بين نهجين، "الكتلة الدستورية" التي كان يتزعمها أول رئيس للجمهورية هو بشارة الخوري، و"الكتلة الوطنية" التي كان يقودها غريمه إميل اده. ولكن كانت كل منهما عابرة للطوائف والمذاهب والمناطق.
وتسعى الأحزاب اليوم إلى السيطرة على الرأي العام والاستئثار بالحياة السياسية، فمنها من قد استتب له الأمر، مثل الثنائي الشيعي، أي حزب الله وحركة أمل، والذي يحتكر تمثيل شرائح واسعة من الشيعة في محافظتي الجنوب والبقاع ويختزله، والذي قرّر وضع اليد على التمثيل الشيعي بالكامل، واحتكار المقاعد الشيعية كافة (27 مقعدا) وتقاسمها بالتساوي بين طرفيه. ويصف حزب الله المعارضين بأنهم "شيعة السفارة" (السفارة الأميركية). وقبل أيام، تعرّض أحد المرشحين الشيعة، وهو صحافي معروف، يرأس اللائحة المعارضة الوحيدة، لاعتداء وحشي من عناصر من الحزب في دائرة الحنوب الثالثة. ومن هذه القوى أيضا تيار المستقبل الذي يتزعمه سعد الحريري، والذي تمكّن من تجييش معظم مواطني طائفته، والإمساك بناصية القرار في الطائفة السنية، بعد أن انكفأ عن فريق 14 آذار السيادي والعابر للطوائف إلى المربع المذهبي لمواجهة معارضيه الذين اشتد عودهم داخل البيئة نفسها في محافظات بيروت (8 لوائح تواجه لائحة الحريري في دائرة بيروت الثانية) والشمال (7 لوائح تواجه لائحة الحريري في طرابلس) والبقاع وعكار. وكذلك يمكن القول بالنسبة للأقليات، وتحديدا الدرزية التي لزعيمها وليد جنبلاط دور ووزن يتخطيان حدود طائفته منذ عقود، والذي كان له دور ريادي ومفصلي في انتفاضة 14 آذار 2005 على أثر اغتيال رفيق الحريري. ولم يتمكّن غريمه التقليدي طلال أرسلان من أن يشكل ثنائية فعلية.
أما الساحة المسيحية، فلا تزال تنعم بنوع من التعدّدية تتنازعها مجموعة أحزاب وتيارات، هي التيار الوطني الحر (العوني) الذي يرأسه وزير الخارجية وصهر رئيس الجمهورية، جبران باسيل، وحزب القوات اللبنانية الذي يقوده سمير جعجع، وحزب الكتائب الذي يرأسه سامي الجميل، وتيار المردة الذي يتزعمه سليمان فرنجيه. وهناك وجوه مستقلة ما زال يحفل بها الاجتماع المسيحي، على عكس باقي الطوائف، والتي يعمل حزبا القوات والتيار العوني على إلغائها بكل الطرق والوسائل. وفي الوقت عينه، يتصارع الطرفان في ما بينهما من أجل السيطرة على معظم المقاعد، والاستئثار بقرار الشارع المسيحي. ويبرع في هذا المجال بشكل خاص التيار العوني، مستفيدا من أن زعيمه ميشال عون أصبح رئيسا للجمهورية. وقد جند باسيل نفوذه السياسي والحكومي، وكل أدوات السلطة التي بتصرفه، لتعبئة الناخبين وحشدهم وترغيبهم في لبنان ودول الاغتراب (يقترعون أول مرة من الخارج)، بغض النظر عن
الموقف السياسي والشعارات التي يرفعها تياره. فقد عمل بشكل أساسي ومكشوف على تركيب لوائح معظم مرشحيها من خارج التيار، وقرّر أنه يريد الفوز بأي ثمن وبأية وسيلة. وأهم هذه الوسائل هو عنصر المال، ففي معظم الدوائر، وفي كل لائحة هناك رجل أعمال أو إثنان حلا مكان مرشحين من التيار، في معظم دوائر جبل لبنان وفي زحلة - البقاع وفي جزين، يغدقون المال يمينا وشمالا، يتكفلون بمصاريف الحملة الانتخابية، غير أن الطامة الكبرى، والمعيبة في آن، هي "اضطرار" هؤلاء المتمولين إلى إضافة فساد فوق فساد، وتعميم ظاهرة شراء الأصوات وضمائر الناخبين. إذ إنه بعد دخول اللائحة تصبح المنافسة بين المرشحين أنفسهم في داخل هذه اللائحة، ويسعى كل واحد منهم إلى أن "ينفذ بريشه". رائحة الملايين في اللوائح العونية زكمت الأنوف، وقد ذكرت صحيفةٌ أن أحد المرشحين على لائحة التيار في دائرة المتن (جبل لبنان) قد دفع 40 مليون دولار، لكي يضمن انضمامه إليها، ومع ذلك ليس مضمونا فوزه، لاحتدام المعركة هناك بين أقطاب وقوى سياسية أساسية وكثرة مرشحين.
ليست هذه الظاهرة الفاجرة حكرا بطبيعة الحال على التيار، فإذا كان باسيل قد وجد ممولين داخليين، فهناك أيضا متمولون يتزعمون تيارات سياسية، مثل رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، المصنف بين أوائل المليارديريين العرب بحسب مجلة فوربس (2.3 مليار)، يترأس لائحة في عاصمة الشمال طرابلس، تنافس لائحة تيار المستقبل، فيما تغدق قوى أخرى ملايين وصلت إليها من الخارج.. أما الحريري فقد أعلن في بداية الحملة الانتخابية أن "ما في فلوس"، وطعّم لوائحه بمرشحين متمولين بانتظار أن يأتي الفرج.
والمضحك - المبكي أن كل هذه القوى تنادي بالتغيير وبإصلاح الدولة ومؤسساتها، والكل يعلن محاربته الفساد، إلى درجة أنه لم يعد هناك من توجه التهمة إليه.
5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.